Translate

امرأة لا تجيد الرقص بقلم : متولي بصل - مصر

 


امرأة لا تجيد الرقص

بقلم

متولي بصل

مصر

انتهى به الحال على رصيف أحد المقاهي، رائحته الكريهة تزكم أنوف العابرين، وتثير اشمئزاز الجالسين في ذلك المقهى الشهير والقريب من موقف السيارات.

بذل محاولات كثيرة لينال عطف أي شخص من رواد المقهى أو عماله؛ ويحظى بكوب من الشاي الدافئ الذي سيمنحه شيئا من الدفء؛ وينسيه للحظاتٍ قسوة برد الشتاء.

كل من يراه يدرك أنه مجنون وذلك من هيئته الرثة؛ وملابسه الممزقة القذرة؛ ورائحته الكريهة؛ والتي تجعل الجميع ينفرون منه، لكن قوامه الممشوق، وبنيانه الجسدي القوي كانا يثيران الدهشة، ويؤكدان لكل من يراه أنه كان في يوم من الأيام شابا عاقلا يمارس الرياضة، وأنه حديث عهد بالجنون!

أقرب الجالسين إليه في المقهى كان يرتدي معطفا مميزا؛ أثار فضول ذلك الشاب المجنون - ربما يُذكِّره بمعطفٍ ارتداه في يوم من الأيام - فأخذ يقترب منه شيئا فشيئا، وبطريقة غريبة، أثارت قلق الرجل، وجعلته في حالة ترقب وحذر مما قد يفعله المجنون، لدرجة أنه أخذ يلتفت يمينا ويسارا، وكأنه يبحث عن أي شخص ينقذه من المأزق الذي يمر به، ورآه أحد عمال المقهى؛ فأسرع نحوه وهو يحمل بيمناه صينية عليها بعض الأكواب الممتلئة، وأخذ يدفع المجنون عن الرجل بيده الأخرى وبحذر، بينما كان المجنون قد بدأ يعبث بمعطف الرجل بأصابعه! حاول العامل إبعاده عن الرجل، فما كان منه إلا أن ضرب الصينية بيده؛ فطارت وطارت الأكواب التي عليها، وسقطت على رؤوس الجالسين، فقاموا جميعا غاضبين، والشرر يتطاير من عيونهم، ولما رأى المجنون نظراتهم التي تقدح شررا؛ فر هاربا نحو موقف السيارات القريب.

قذارته كانت تجبر الناس على الابتعاد عنه؛ فلم يعترض طريقه أحد، كما أن بنيانه الجسدي القوي كان يخيف الجميع، فلا يجرؤ أحد على الوقوف أمامه.

وعندما توَارى عن أعين الجميع خلف دورات المياه الموجودة في نهاية الموقف؛ فوجئ بثلاثة رجال يقتربون منه، لم يفطن إلى أنهم كانوا يتابعونه منذ زمن. أحدهم كان يحمل لفَّة تفوح منها رائحة شهية؛ جعلت لعابه يسيل حتى قبل أن يرى ما بداخلها، ثم وضعها أمامه؛ وفتحها؛ فإذا بها وجبة مغرية من اللحم المشوي، والأرز والخضار!

مدَّ المجنون يده نحو اللحم بفرح من لم يذقه منذ سنوات؛ وأكل بنهم شديد، والثلاثة ينظرون إليه وعلى وجه كل واحد منهم ابتسامة رضا، ولم تمر دقائق حتى فقد وعيه؛ وأصبح من السهل عليهم إتمام المهمة التي جاؤوا من أجلها، ذهب أحدهم وغاب قليلا؛ ثم عاد راكبا سيارة، سرعان ما نزل منها، وساعد زملاءه في حمل جسد الشاب، ووضعه داخل السيارة، ثم ركب الثلاثة، وانطلقوا بالسيارة قبل أن يلاحظهم أحد!

على الطريق الممتد بين دمياط وشطا، وفي منطقة نائية، توقفوا بالسيارة أمام منزل كبير، نزل الثلاثة، وحملوا جسد الشاب؛ ودخلوا به، وهو لا يزال تحت تأثير المخدر، ثم قاموا بتجريده من جميع ملابسه، ووضعه داخل ( بانيو ) مليء بالماء الدافئ، ثم طفقوا ينظفونه وكأنهم ينظفون بطة أو دجاجة لطهيها، واستخدموا أنواعا من الصابون الفاخر، ومجموعة من أدوات التنظيف والتعقيم؛ والتي استطاعوا بها إذابة وإزالة كل الأوساخ التي كانت تستوطن جلده منذ زمن!

وبعد أن انتهوا من تنظيفه وتجفيفه؛ حملوه عاريا؛ ووضعوه في فراش نظيف، في غرفة مكيفة؛ ومجهزة بأجهزة طبية تشبه الموجودة في غرف العمليات بالمستشفيات؛ ثم قيدوا يديه ورجليه بسلاسل حديدية مشدودة إلى أعمدة السرير الذي كان هو الآخر حديديا!؛ ثم غطوه بملاية ناصعة البياض، ورغم برودة الجو في الخارج إلا أنه كان دافئا داخل المنزل، بفضل التكييف فالمكان رغم وجوده في منطقة نائية إلا أنه كان مجهزا تجهيزا يثير الدهشة.

 رن جرس الباب، فأسرع أحدهم لينظر من العين السحرية؛ ولمَّا اطمأن وتعرَّف على الشخص الذي رن الجرس؛ فتح الباب، دخلت امرأة ثلاثينية، قال لها أحدهم بينما كانت تخلع معطفها :

-  كل شيء جاهز، وفي التاسعة مساء اليوم، عندما يصل الدكتور " صالح" ستتم العملية على خير، وتنتهي المهمة. المهم إنك تحرصي على إنه لا يسترد وعيه، ضروري يظل تحت تأثير المخدِّر، لأنه لو انتبه وفتح عينيه لحظة واحدة سيتعبنا، ويعمل لنا مشاكل نحن في غنى عنها.

-  لا داعي للقلق، المهمة ستتم في هدوء وعلى خير مثل كل مرة، المهم ألا يتأخر الدكتور عن موعده.

كان الوقت عصرا عندما خرج الرجال، وبمجرد خروجهم أحكمت إغلاق باب الشقة، وكانت مطمئنة إلى أن جميع النوافذ مغلقة، فتوقفت أمام المرآة، وبدأت تخرج بعض الأشياء من حقيبة يدها؛ ومن بين الأشياء التي أخرجتها من حقيبتها قميصا أحمر يبدو شبيها بالذي ترتديه الراقصات؛ وعلبة صغيرة؛ وحبة زرقاء؛ وجهاز تسجيل صغير؛ ابتسمت ابتسامة خبيثة وهى تفتح تلك العلبة الصغيرة، وتخرج منها واقيا ذكريا، إنها ليست المرة الأولى التي تقوم فيها بهذا العمل الغريب، ففي كل مرة يحضرون فيها رجلا، ويقومون بتخديره؛ تقوم هى بتلك الفعلة الشيطانية! ولو أن رجال المؤسسة اكتشفوا ما تقوم به لقتلوها على الفور، إذ أنها تعرِّض عملهم للخطر، لكن لحسن حظها لم يتم اكتشافها قط.

تركت كل شيء وذهبت لتلقي نظرة على البضاعة التي أحضروها! فلما رأت  الشاب المقيّد في السرير؛ فوجئت بوسامته، وبجسده الرياضي الممشوق! ويبدو أن الرجال لم يخبروها بحقيقته، التعب أنساهم أن يقولوا لها أنه ليس سوى مجنون؛ لو رأته في الشارع ما استطاعت أن تتحمَّل رائحته الكريهة، أو هيئته البشعة.

إنها على ثقة من أنهم لا يحضرون أي شخص، بل يختارون أشخاصا يتمتعون بالصحة والحيوية، وللتأكد من ذلك فإنهم قبل القيام بمهمة الاختطاف، يقومون بمتابعة الضحية من بعيد، ولديهم طرق عديدة ليحصلوا من خلالها على المعلومات التي يحتاجونها عنه، حتى فصيلة دمه، وتاريخه المرضي، ليسوا مجرد عصابة من عصابات سرقة الأعضاء، بل مؤسسة إجرامية كبيرة تضم بين أفرادها أطباء ورجال أعمال!

 خلعت ثيابها، وارتدت ذلك القميص الأحمر، ثم وقفت أمام المرآة من جديد تتأمل وجهها، كانت ترتدي نظارة؛ فخلعتها؛ ثم بإصبعين من أصابعها غرستهما في تجويف عينها اليسرى؛ وخلعت عينها! كانت مجرد عين زجاجية! أخذت تمسحها بمنديل ورقي ناعم، ثم أعادتها إلى مكانها، وارتدت مكان نظارتها قناعا لا يُبدي من وجهها سوى عينيها وأنفها! 

 يظن من يراها في معطفها الأبيض أنها ملاك من ملائكة الرحمة، بينما هى في الحقيقة تخفي خلف تلك البراءة الزائفة شيطانا من شياطين الجحيم، فسعادتها الكبرى تتحقق عندما يعود الرجال بضحية ذكر! ولولا خوفها من بطش هؤلاء الرجال لكان لها مع كل ضحية شأن آخر، فلديها حساب كبير مع كل ذكر يقذفه حظه السيئ في طريقها، ووسائل التعذيب التي تتشكل في رأسها ربما لا تخطر على عقل بشر، من بينها أن تنتزع عينيه الاثنتين بأظافر يديها؛ ثم تسحب ما يظهر لها من تلافيف مخه إلى الخارج؛ وتمضغها بأسنانها!

منذ فقدت عينها في مشاجرة مع زوجها الفقيد، وهى تشعر أنها فقدت قلبها، وربما كان هذا هو السبب الذي جعلها توافق على الانضمام إلى هذه المؤسسة، صحيح دورها ينحصر في مراقبة الضحية، وهو تحت تأثير المخدِّر حتى وصول الدكتور، ثم المشاركة في عملية انتزاع أحد أعضائه، لكنها قررت زيادة مساحة الدور الذي تقوم به، وذلك دون علم المؤسسة، ربما لو لم يمنحها القدر فرصة الانضمام إلى هذه المؤسسة التي تسرق أعضاء الناس، لكانت اليوم قاتلة!

سمعت الشاب يهذي بكلمات غير مفهومة، ولاحظت أن أصابع يديه تتحرَّك؛ فأدركت أنه على وشك أن يسترد وعيه؛ كان عليها أن تحقنه بالمخدّر لكنها لم تفعل! شغَّلت الأغنية التي اعتادت أن ترقص على أنغامها، وانطلقت تتمايل أمامه وترقص رقصتها التي أتقنتها من كثرة أدائها! تستطيع أن تقرأ ما يفكر فيه الشاب من خلال نظرات عينيه، ولأول مرة تجد شخصا يُعجب برقصها! كانت نظراته تبدي انبهارا شديدا، وإعجابا بحركاتها؛ مما جعلها تشعر بسعادة غامرة، لم تشعر بها من قبل، فحتى زوجها عندما أحضر لها قميص الرقص هذا وأجبرها على أن ترقص له رغم رفضها، لم يبد أي إعجاب، بل كان رد فعله أن هجم عليها وضربها ضربا شديدا، حتى فقأ عينها! ذلك السكير؛ المدمن مهما فعلت من أجل إرضائه، لا يرضى! إنه يستحق تلك الحفرة التي دفنته فيها.  بعد أن انتهت الأغنية، توقفت عن الرقص، ثم اقتربت من الشاب الذي كان مبهورا بما يراه، ودخلت تحت الغطاء معه، ثم بدأت تحتضنه وتقبله؛ فوجئت به في حالة استسلام تام لها، ولما لم تجد منه أي رفض أو اعتراض؛ فكَّت السلاسل الحديدية، ونامت بجانبه في اطمئنان وسكينة لم تشعر بهما من قبل؛ ودون أن تشعر أخذت تحكي له أشياء كثيرة عن حياتها، وهو ينصت إليها بكل اهتمام، ويبتسم لها، ويربت على كتفها بيده، ويحتضنها بطريقة عجيبة، وكأنه يعرفها منذ زمن طويل!

وعندما سألته عن اسمه؛ سرح ببصره وقتا ليس بالقليل؛ ثم قال :

-  أسا .. أسا .. مة  

خرجت الكلمة من فيه، وكأنها أول كلمة ينطقها في حياته، ثم قال لها بدهشة واضحة:

-  لكن .. .. قالوا إنهم وجدوك ميتة، معقول كان كلامهم كذب!

-  ميتة! أنا ؟!

-  كانوا يحاولون إيقاظك من النوم صباح اليوم الذي كان محددا لزفافنا، كان باقي على الفرح ساعات، لكنك لم تقومي، قالوا إنها أزمة قلبية!

نزلت بعض الدموع من عينيه، بينما كانت هى في حالة ذهول، احتضنها بقوة؛ وهو يقول :

-  لكن الحمد لله يا "سوسن"  إنك موجودة، كان ممكن أموت يا حبيبتي لو كان أصابك مكروه!

-  "سوسن" ! أنا اسمي ..

وضع يده على فمها بلطف؛ وهو يقول لها :

-  لا يهم أي شيء يا "سوسن" ، المهم إنك بخير، الحمد لله.. الحمد لله، إنك موجودة الحمد لله!

كلماته تغلغلت في أعماقها؛ هزَّت كيانها؛ وحوَّلتها من لبؤة مفترسة، لا تعرف إلا القتل والتنكيل، إلى قطة أليفة وديعة، ممتلئة حبا وحنانا! هى نفسها لم تصدّق هذا التحوّل السريع والمفاجئ! إنها تشعر ولأول مرة أن في صدرها قلب يدق، إنها تسمع دقاته ! هل يعقل أن يكون هذا هو قلبها قد بُعث من جديد؟!

أصبحت تشعر أنها تعيش حلما جميلا، وتحس بمتعة كانت تفتقدها منذ سنوات، وقالت لنفسها وهى تسمعه يناديها باسم غريب ليس اسمها ( هل يمكن أن أهدم ذلك الحلم الجميل؛ وأحرم نفسي من تلك المتعة من أجل اسم؟! ما الضير من أن يكون اسمي "سوسن" المهم أنني وجدت أخيرا الشخص الذي أشعر معه بالحب الذي كنت أفتقده، والأمان الذي كنت محرومة منه.

تذكّرت المهمة التي أحضروا من أجلها ذلك الشاب الذي وجدت فيه ما كانت تبحث عنه منذ سنوات، أفزعتها فكرة أنهم سيفتحون بطنه؛ ويخرجون أحشاءه؛ لينتزعوا كبده أو طحاله أو كليته أو .. ثم يلقون به على رصيف أي طريق!

ولأول مرة منذ شاركت في هذا العمل الإجرامي، تشعر ببشاعة الأمر؛ إنه جريمة كبيرة يستحق مرتكبها أكبر عقوبة.

فقامت مسرعة نحو ملابسها لترتديها، وبحثت في كل مكان عن أي ملابس تناسبه، لكنها لم تجد إلا ملابس ممزقة نفرت من رائحتها، واندهشت لوجودها؛ وسألته :

-  أين ملابسك يا أسامة؟!

بدا لها مثل الطفل الصغير وهو يحاول أن يتذكر أين ملابسه، ونظر إليها نظرة تساؤل؛ ثم أخذ يردد كلامها :

-  ملابسي! أين ملابسي ؟!

عقارب الساعة على الحائط تشير إلى الثامنة، ساعة واحدة ويداهمهم رجال المؤسسة، تذكرت أنهم يحتفظون بملابس إضافية لهم في صندوق مع بعض الأدوات الطبية؛ أخرجت كل الملابس، لتختار له شيئا يناسبه؛ ثم ساعدته على ارتداء هذه الملابس؛ ثم خرجت به نحو الطريق الرئيسي. سارا على الرمال وقتا حتى وصلا إلى هذا الطريق، لكن لحسن حظهما لم يأخذا وقتا في انتظار وقوف سيارة في تلك المنطقة النائية؛ فقد توقفت إحدى سيارات الميكروباص القادمة من دمياط، والمتجهة إلى شطا، جلست ملتصقة بحبيبها "أسامة" وكأنها تخشى من أن يضيع منها في أي لحظة، لقد ضحَّت بأشياء كثيرة من أجل ذلك الحبيب الذي لم تره ولم تتعرَّف عليه إلا منذ ساعات!

بات عليها أن تنسى شقتها التي كانت تعيش فيها في دمياط؛ وتنسى كل ما فيها من أثاث وفرش وملابس؛ فذهابها إليها معناه تعرضها للقتل على يد رجال المؤسسة.

لكن ما هوَّن عليها الأمر أن عقد تلك الشقة سينتهي في بضعة شهور، كما أنها منذ اليوم الأول لانضمامها للمؤسسة، كانت تجهز نفسها للأسوأ؛ سواء اكتشاف رجال الشرطة أمرها، أو انقلاب رجال المؤسسة عليها لأي سبب، ومحاولة إيذائها أو قتلها؛ ولذلك كانت قد استخرجت لنفسها هوية مزيفة باسم آخر؛ واشترت شقة في منطقة بعيدة في الإسكندرية؛ وجهزتها بكل ما تحتاج إليه، وأخفت فيها كل الأموال التي اكتسبتها من عملها مع المؤسسة.

عندما وصلت هى وأسامة إلى موقف السيارات في شطا؛ ركبا أول سيارة متجهة إلى الإسكندرية.

  في التاسعة مساء رجع الرجال الثلاثة، ومعهم الدكتور " صالح" لكنهم لم يجدوا المرأة أو المجنون! فوجئ الجميع بأن السلاسل الحديدية قد تم فتح أقفالها! فتشوا كل أركان المنزل لكنهم لم يعثروا على المرأة أو المجنون.

تحت السرير الحديدي لاحظ الدكتور شيئا غريبا يلمع؛ انحنى حتى تتمكن عيناه من التعرّف عليه؛ وكم كانت دهشته عندما تبين له أنه عازل ذكري، لكنه لم يكن فارغا! قال وهو يغالب ذهوله؛ ويشير للرجال نحوه :

-  الهانم يظهر إنها قضت وقتا ممتعا مع الحالة! معقول بعد ما خلصت هرّبته !

ظهرت الدهشة على وجوه الرجال الثلاثة، لكن لم يجرؤ أي واحد منهم على أن ينطق بأي كلمة؛ فاستطرد الدكتور قائلا :

-  أكيد هو وسيم جدا؛ لدرجة إنها تضحِّي بحياتها، وتعرّض نفسها للموت!

فتح أحد الرجال فمه؛ وقال وهو يُبدي دهشته :

-  وسيم !! يا باشا هو مجرّد مجنون!

رد الدكتور بسرعة، وهو يوجه كلامه للثلاثة معا؛ وكأنه يلقنهم درسا :

-  المجنون فعلا هو من يحاول أن يتلاعب بنا، ويخون الأمانة، ويقصر في أداء مهمته؛ لأن العقوبة الوحيدة التي نعرفها هى الموت.

هز الثلاثة رؤوسهم وكأنهم يؤكدون كلامه؛ وقال أحدهم :

-  تمام يا باشا، تمام.

بنبرة غاضبة؛ قال لهم :

-  والآن لا أريد أن أرى وجه أي واحد منكم إلا بعد أن تحضروا لي هذه الملعونة، والبضاعة التي هربتها، كان المفروض أرجع الليلة ومعي كلية جاهزة، من سيدفع تكلفة هذا التأخير؟!

النجم الجديد بقلم : متولي بصل - مصر

 


النجم الجديد

 إحدى قصص المجموعة القصصية ( الحب في الوقت الضائع )

بقلم 

متولي بصل

     يقولون أن المصائب لا تأتي فرادى! فإذا وقعت إحداها انفتح الباب على مصراعيه! وهذا ما وقع له بالضبط؛ فبمجرد أن أعلن ترشُّحه لعضوية مجلس الشعب زلزلت الأرض من تحت قدميه؛ وانفجر في وجهه بركان هائل من المشاكل التي لم يكن لها وجود من قبل في حياته! وكانت أكبر الحمم التي أحرقت حياته ؛ وأثرت فيه بشكل ٍ كبير تلك الفضيحة التي لا يعرف حتى هذه اللحظة كيف وقعت ؟

     صحيح أن " تُقى " سكرتيرة مكتبه فتاة بارعة الحسن والجمال، لكنه لم يتحرش بها، إنها تعمل عنده منذ سنوات، وكان يعاملها بكل أدب واحترام، ولم ينظر إليها يوما نظرة ذئب، فما الذي دفعها لفعل ما فعلته ؟!

     لقد دخلت مكتبه – في ذلك اليوم الأغبر – ووضعت أمامه بعض الأوراق؛ ليطلع عليها ويضع توقيعه على بعضها؛ كما تفعل كل يوم؛ ثم فجأة ودون سابق إنذار جرت نحو الباب؛ ومزقت ثوبها ! وطفقت تصرخ صراخا هستيريا ؛ وعندما قام ليساعدها؛ ويفهم ما يحدث؛ تشبثت بقميصه ومزقته هو الآخر؛ ثم وقعت على الأرض؛ وهي تجذبه نحوها؛ ففقد توازنه؛ وقع فوقها! في نفس اللحظة انفتح باب المكتب؛ ودلف منه الموظفون؛ وأخرج أحدهم هاتفه المحمول وصور المشهد - بكل برود - وكأنه كان متهيئا لذلك!

     سرت أنباء الفضيحة كالنار في الهشيم؛ رغم أنه كان مجرد شخص مغمور، وليس نجما أو ممثلا أو شخصا مشهورا؛ وأصبح حديث المدينة؛ لا سيما بعد أن تقدَّمت السكرتيرة ببلاغ رسمي تتهم فيه مديرها بالتحرش بها ! وقدم الموظف الذي صور المشهد ما لديه من صور كدليل إدانة ! وبين عشية ٍ وضحاها أصبح " ناصر الغفير " - الذي كان قد كتب على لافتاته الانتخابية رجل البر والتقوى المحترم النزيه - ذئبا ذا أنياب؛ وزير نساء!  

     تجاوزت الساعة منتصف الليل، انصرف الجميع منذ بضع ساعات؛ وظل هو في المكتب رغم الإرهاق والتعب الشديد! ألجأ ظهره إلى الأرض؛ نومته القديمة التي كان ينامها؛ ورفع ساقيه مستندا بكعبيه على أحد المقاعد، شرع يفك أزرار قميصه بعصبية فانكسر أحد الأزرار!

كان كمن يغرق؛ يكاد يختنق؛ ولا يرى أمامه أي فرصة للنجاة! أخذ يحدث نفسه بصوت مسموع :

-       يظهر يا " ناصر " الفقر الذي كنت تظن أنك هربت منه، ونسيته؛ لا يريد أن ينساك .. .. سُمعتك أصبحت في الحضيض؛ شركتك على وشك الإفلاس؛ بيتك على حافة الخراب.. .. هل ستعود إلى حارة " نسناس " من جديد ! وعشة الصفيح فوق سطوح بيت البخيل ابن البخيل " صبحي ليل "؛ أم أن نهايتك ستكون على خيش و برش التخشيبة في ليمان طرة ؟!

رن هاتف المكتب؛ رفع السماعة؛ سمع صوت الحارس على الجانب الآخر يخبره أن امرأة تريد مقابلته ؛ رد عليه باستياء :

-       امرأة في هذه الساعة المتأخرة من الليل! أخبرها أن الشركة أغلقت أبوابها؛ ولتأت في الصباح

فوجئ بصوت أنثوي يداعب طبلة أذنه :

-       لن آخذ من وقتك الكثير؛ لديَّ أخبار مهمة ستحل لك كل مشاكلك؛ قابلني ولن تندم !

نهض من على الأرض؛ وهو يحاول إدخال أزرار القميص في ثقوبها؛ و يقول لنفسه :

-       أخبار مهمة ستحل مشاكلي !!

ثم رفع صوته وهو يعدل السماعة في يده :

-       حسنا .. .. حسنا يمكنك الصعود؛ أنا في انتظارك !

عندما فُتح الباب؛ فوجئ بصاروخ روسي بعيد المدى؛ فاتنة لم يرى امرأة في جمالها من قبل ! قال في نفسه :

-       هل أنا على أعتاب فضيحة أخرى ؟!

مدَّت يدها تريد مصافحته؛ لكنه ظل في مكانه؛ ضحكت بتدلل، وهي تقول :

-       أقدِّر موقفك .. .. لكنني واثقة أنك لست كما يقولون عنك .

-       أرجو منك أن تدخلي في الموضوع؛ ماذا لديك ِ ؟!

-       ألن تسمح لي بالجلوس أولا ؟!

أشار لها، فجلست ووضعت إحدى ساقيها على الأخرى؛ وأخرجت علبة سجائرها؛ وقدّاحتها؛ وأشعلت سيجارة؛ وأخذت تنفث دخانها وهي تقول :

-       سأدخل في الموضوع مباشرة، فمن الواضح أنك وصلت إلى حالة أسوأ من التي أراد أعداؤك أن يصلوا بك إليها !

-       أعدائي ؟!!

-       ها ها .. .. وهل كنت تظن أن كل ما يحدث لك مجرد مصادفة .. .. يا سيد " ناصر " يوجد أشخاص على استعداد لدفع كل ما يملكون من أجل تدميرك !

-       لكن أنا ليس لدي أعداء ! إنني أعامل الجميع بكل احترام؛ ولم أعادي أحدا؛ ولم أسبب ضررا أو أذى لأي شخص !

-       أعداء النجاح ما أكثرهم سيد " ناصر " !

-       لكنني الآن رجل فاشل؛ شركتي؛ بيتي ؛ سمعتي ؛ كل شيء ينهار أمام عيني ّ؛ وأنا عاجز لا أستطيع فعل شيء ! أشعر أنني أسقط من فوق قمة جبل مرتفع؛ وما هي إلا لحظات ويقع الاصطدام !

-       يمكنك العودة إلى القمة .. .. كل ما تحتاج إليه جناحان تطير بهما .

-       ها ها .. .. لم أضحك منذ أيام ؛ تقولين أطير .. .. إنني أغرق يا سيدتي !

-       صدقني يا سيد " ناصر " تستطيع أن تمسح كل ما حدث؛ وتعود إلى أفضل مما كنت؛ بل وستنجح في الانتخابات؛ وتصبح عضوا في البرلمان المصري؛ بل ويمكنك أن تصبح – بعد ذلك – وزيرا في الحكومة ، لديك امتيازات كثيرة تؤهلك لذلك .

-       مؤكد مع حضرتك خاتم سليمان !

-       صحيح .. .. معي خاتم سليمان؛ وعصا موسى؛ وأكثر من ذلك؛ كل ما عليك هو أن توافق على الصفقة التي سنعقدها معك !

اعتراه الذهول؛ إنها لا تبدو له مجنونة؛ كما أنها تتحدث بثقة كبيرة؛ إنه رجل أعمال، وابن سوق؛ ويستطيع التمييز بين من يتكلم في الفاضي، ومن يتكلم في المليان؛ قال لها متسائلا :

-       أي صفقة ؟!

ارتسمت على وجهها ابتسامة كبيرة؛ ابتسامة النصر والفوز، لكنها لم تجب على سؤاله؛ بل قالت له :

-       الوقت متأخر جدا لمناقشة تفاصيل الصفقة؛ يمكننا هذا في لقاء آخر إذا وافقت طبعا.

ثم قامت من مكانها؛ وتوجَّهت نحو الباب؛ وثب من على كرسيه كالفهد؛ ومد إليها كلتا يديه يريد مصافحتها، وهو يقول لها متوددا :

-       لكنني لم أعرف حتى الآن من أنت ِ .. .. و لا كيف سأقابلك !

-       أنا " طوق نجاتك " .. .. أما عن المقابلة القادمة فلا تقلق .. .. سنتقابل؛ وسنتناقش في تفاصيل الصفقة؛ إنها صفقة العمر بالنسبة لك، ولنا !!

مدت يدها فصافحها بكلتا يديه؛ ثم انصرفت كما جاءت !

     بين عشية وضحاها؛ خمد بركان المصائب الذي كاد يحرق حياته؛ ويدفنه تحت حممه ، واستقرت الأرض تحت قدميه؛ فسكرتيرته أقرَّت ببراءته، وعللت ما فعلته بأنها كانت تريد أن ترغمه على الزواج بها! لم يقتنع بالسبب الذي ذكرته؛ فهي فتاة بارعة الحسن؛ وأي شخص يتمنى أن يقترن بها؛ و لو كان رأى منها أو شعر بأي ميل منها نحوه؛ لأقدم على خطبتها دون تردد؛ رغم أنه متزوج، ولديه أربع بنات !

     لكنه على كل حال نجا بشرفه من براثن فضيحة مدوِّية؛ وقد رفعت هذه البراءة من قيمة أسهمه لدى الناخبين؛ فنجح بفارق كبير عن أقرب منافسيه؛ وأصبح عضوا ًفي البرلمان؛ واستقرت أحوال شركته وارتفعت أسهمها؛ وزادت مكاسبه بسرعة لم يتوقعها ! وتحولت شركته الصغيرة إلى واحدة من أكبر شركات الاتصالات في البلد !

     اشتهر لدرجة أن صوره أصبحت تتصدَّر صفحات الجرائد؛ كما أصبح ظهوره - في أهم البرامج التليفزيونية وأكثرها مشاهدة – أمراً معتادا ً!

     كان يشعر أن هناك قوة خفية تدفعه نحو القمة؛ لدرجة أنه بدأ يزاحم رجال السياسة المخضرمين الذين كان يرى صورهم؛ ويسمع أخبارهم، ولم يحلم يوما بمقابلة أحدهم، أو حتى مصافحته؛ وبعد أن أنهى البرلمان دورته؛ تم اختيار الرجل ليكون وزيرا للاتصالات !

     كان اليوم الأول له في مبنى الوزارة؛ والذي ازدحم بباقات الورود والزهور؛ وعبارات التهنئة؛ والترحيب؛ وتمنيات كثيرة له بالتوفيق في منصبه الجديد، وجذب انتباهه سماعه أحد المهنئين يقول له :

-       والله العظيم معاليك أنسب شخص لهذا المنصب؛ فأنت جدير به ؛ أنت مفجِّر ثورة الاتصالات في هذا البلد!

ذكَّره هذا الكلام بما أخبرته به الفاتنة التي قابلها مرتين فقط على مدار خمسة أعوام؛ لقد قالت له في اللقاء الأخير؛ بعدما وقع موافقا على بنود الصفقة العجيبة:

-       ستصبح شركتك أعظم شركة اتصالات في هذا البلد؛ وستصبح وزيرا للاتصالات .

وقتها ظن أن هذا الكلام مجرد ديباجة لتمرير الصفقة، لكنه الآن بات يدرك جيدا أن كل ما قالته له لم يكن مجرد كلام !

     فعلى مدار خمسة أعوام حصلت شركته على عقود كبيرة  لم يكن يحلم بها؛ وبأسعار زهيدة؛ بمفرده لم يكن يستطيع إنجازها؛ بدأ يتساءل في قلق :

-       من هؤلاء .. .. وماذا يريدون ؟!      (  لا تزال كلمات المرأة تتردد في أذنيه : )

-       ستصل إلى أكثر مما تحلم به، بمساعدتنا طبعا؛ وفي المقابل لا نريد منك إلا أمرا واحدا؛ خصخصة شركة الاتصالات العامة؛ والموافقة على بيع جميع أسهمها .

وقتها سألها بكل سذاجة :

-       تتحدثين وكأنني فعلا سأصبح وزيرا مع أنني لم أحلم يوما أن أصبح مديرا لهيئة الاتصالات في هذه المدينة، ثم إنني .. .. بصراحة معي شهادة دبلوم ، وليست شهادة جامعية كما يظن الكثير !

-       ليس لدينا وقت للأحلام؛ نحن نضع أهدافا؛ ثم نحققها ، وعليك أن تتعلم منا !

-       ومن أنتم ؟!

-       مؤسسة اتصالات ضخمة؛ لنا في كل بلد رجال نساعدهم حتى يصلوا إلى أعلى المراكز؛ ويصبحوا من أصحاب النفوذ والجاه والسلطان؛ وبذلك يتمكنون من رعاية مصالحنا .

-       إذا أنتم تريدون خصخصة الشركة العامة للاتصالات لتشتروا أسهمها .. .. ولكن لماذا ؟!

-       لدينا أسبابنا .. .. وأسبابنا هي سر المهنة كما تقولون !

إحدى قصص المجموعة القصصية ( الحب في الوقت الضائع )

مشاركات مميزة

DR. MUJË BUÇPAPAJ - ALBANIA .. Poet Mujë Buçpapaj was born in Tropoja, Albania (1962). He graduated from the branch of Albanian Language and Literature, University of Tirana (1986).

DR. MUJË BUÇPAPAJ - ALBANIA  Poet Mujë Buçpapaj was born in Tropoja, Albania (1962). He graduated from the branch of Albanian Language...

المشاركات الأكثر مشاهدة