جزء من رواية
للنساء فقط
للأديب والروائي العراقي
عبدالزهرة عمارة
(1)
في زقاق ضيق، تفوح منه رائحة الصابون البلدي
والورد المجفف، يقف باب حمام السنية العتيق شامخًا في مدينة العمارة ، كأنه بوابة
لعالم آخر، عالم مسكون بالهمس والضحكات والدموع الخافتة. عند العتبة، تتخلى النساء
عن أرديتهن الخارجية، وكأنهن يخلعن أثقال الحياة، ويدخلن إلى عالم بخاري تتمازج
فيه الأجساد والأنفاس، حيث تصير الحدود بين الواقع والأحلام واهية كطبقات الضباب
المتصاعد من البرك الساخنة.
داخل القاعة الكبيرة، تتراقص قطرات الماء فوق
الجدران العتيقة، كأنها أسرار قديمة ترفض أن تُمحى، وتتعرق الأحجار، كأنها تشارك
النساء تطهير أرواحهن. في زوايا الحمام، حيث الضوء الخافت يتسلل بصعوبة، تنبعث
ضحكات مكتومة، حكايات هامسة، أسرار تتلوى في الهواء الدافئ، كما تتلوى خصلات الشعر
المنسابة فوق الأكتاف العارية.
-مرّري لي الماء، يا هند!
تنادي
إحداهن، فتتحرك يد أخرى بسرعة، مبللة بالصابون، تمسح الأكتاف بحنان يشبه لمسات
الأمهات في ليالي الشتاء الباردة. ....يدان تفركان الجلد بقوة، كأنهما تمسحان عن
الجسد آثار الأيام، والقلوب ....تغتسل بصمت، علّها تخرج من هنا أكثر خفة، أكثر
نقاءً.
يتعالى صوت انسياب الماء في المغطس....يتناغم
مع حفيف الأحاديث الخافتة، فتشعر كل امرأة بأنها جزء من سيمفونية أزلية، كأن
الحمام ليس مجرد مكان، بل كائن حي يبتلع الهموم.....يحفظ الأسرار، وينثر الطمأنينة
بين جدرانه. هنا، لا طبقات اجتماعية، لا ألقاب، لا أقنعة... فقط النساء في أكثر
لحظاتهن صدقًا، مجردات من الأدوار التي فرضها عليهن العالم الخارجي، عاريات إلا من
حكاياتهن المتداخلة.
-أتدرين يا ناعسة ؟
تهمس امرأة عجوز وهي تفرك قدميها بالحناء،
-يقال إن الحمام يأخذ الهم ويعيدك للحياة كما
يعود الطفل من رحم أمه.
تبتسم
ناعسة وهي تغمر جسدها في الماء الساخن، تغمض عينيها للحظة، وتتخيل نفسها تولد من
جديد.
هكذا، كان الحمام منذ القدم ملاذًا للنساء، أشبه بمحراب سري لا يعرفه الرجال، حيث تُعاد صياغة الحكايات، وتُبعث النساء كل مرة كما يُبعث الفينيق من رماده، أكثر قوة، وأكثر استعدادًا لمواجهة الحياة التي تنتظرهن خلف البوابة الخشبية العتيقة.
(2)
في غرفة صغيرة مطلة على قلب المغطس، تجلس الحاجة
صفية، مديرة الحمام، وكأنها من صناع الزمن، تحمل في عينيها بريق الأساطير وحكمة
الأجيال.... تحتسي النارجيلة ببطء، في حين تتصاعد من فمها أنفاس عطرية ممزوجة
برائحة الياسمين والعود، لتغلف المكان بهالة من الغموض والجمال.
عيناها الثابتتان، كشموسٍ في سماءٍ صافية،
تبحران في مشهد الحمام المزدحم، تتفحصان كل تفصيل كما لو أنهن قُرّاء للأسرار
الخفية التي تحكيها الجسد. تتأمل الحاجة صفية في الأجساد المتداخلة: فهي تميز بين
الجسد الغث والسمين، وبين الجسد الجميل والقبيح، كما يميز الفنان ألوانه ليحفر
لوحةً تنطق بالحياة. في كل منحنى وكل خط، ترى صفية لغةً صامتة تخلو من أية عاهات
أو ندبات تُشوه الصورة الأصلية لجسد المرأة، تلك الصورة النقية التي تسرّ العيون
وتُلهم القلوب.
كانت
الحاجة صفية تجلس على مقعد خشبي، تراقب النساء بعين خبيرة، تحفظ أسرارهن كما تحفظ
أسماء الشباب الراغبين في الزواج. كانت وسيطة القلوب، المأذونة غير الرسمية، التي
تعقد الزيجات داخل جدران الحمام، حيث تتفق الأمهات، وتُبرم العهود بين النساء.
الحاجة صفية، امرأة جاوزت الخمسين، لكن عيناها
تحملان بريق ذكاء نافذ. كانت تعرف كل شاب وشابة في الحي، تحفظ الأسماء كما تحفظ
تفاصيل حياتهم، حتى أضحت عرّابة الزواج غير المتوجة.
وبهمس الماء المتلاطم على الأحجار القديمة، تسمعها
إحدى الزائرات تُهمس:
-يا حاجة صفية، إن جمال هذه المرأةِ لا
يُقارَن، كأنه ضوء القمر يسطع على وجه البحر في ليلة هادئة.
فترد صفية بصوتها الرصين الممزوج بالحكمة:
-الجسد يا ابنتي، كمرآة شفافة، لا تكتسي سوى
براءة الطبيعة. إنما عيوبه ما هي إلا ظلال زائلة، في حين يبقى الجمال الحقيقي
نقيًا خاليًا من تلك الآثار التي قد تُخفي الروح.
قالت لها
أم حسن وهي تدلك كتفيها برغوة الصابون:
— صفية،
أبحث عن عروس لابني، يكون قلبها كالماء، صافية لا يشوبها غدر الزمان.
ضحكت
الحاجة صفية وقالت:
— عندي
لكِ من يشبه القمر في ليلة التمام، لكنها تحتاج لرجل يكون كالشمس، لا يخفت ولا
يغيب.
هكذا، في هذا المشهد السحري، لا تكون صفية
مجرد مسؤولة للحمام، بل تُصبح خبيرته التي تلمس تفاصيل الأجساد كما تلمس اليد
الندية أوراق الزهر في صباحٍ ربيعي.
تملك
في ذاكرتها قائمةً بأسماء شباب وصبايا الحي، تُقدمها لمرشحي الزواج كما يُقدم
التاجر بضاعته الثمينة، عارضةً كل اسمٍ وكأنه جوهرة من جواهر الزمن، تختار من
خلالها من يستحق هذه اللوحة الفريدة التي رسمتها الطبيعة بيدها.
وفي كل لقاء، تُضاف حكاية جديدة إلى سجلات الحمام العتيق، حيث يتحول المكان إلى مسرحٍ للفن والسرّ والحنين؛ مسرح تُكتب فيه قصائد الحياة، وتُرفع فيها رايات الحرية، معلنةً أن الجمال ليس قيدًا يُحدّد بأشكال زائلة، بل هو تجربة روحانية تتجاوز الملامح الخارجية لتصل إلى عمق الكينونة.
(3)
في قلب مدينة العمارة القديمة، حيث تتعانق الحارات
كأنها أسرار مكتومة، كان حمام السنبة ملاذًا للنساء، ليس فقط للاغتسال، بل كمنتدى
ثقافي واجتماعي. كان المكان يعج بالضحكات الخافتة وأحاديث تتخللها بخار الماء
العابق بالورد والياسمين. هنا، لا تُغسل الأجساد فقط، بل تُغسل الأرواح من همومها.
وفي ذلك المكان العابق بالتقاليد والقصص، لم تكن الزيجات تتم فقط، بل كانت الحكايات تُحاك، والأسرار تُنثر كما تُنثر القطرات على البلاط الساخن.
(4)
كانت شمس
مدينة العمارة قد بدأت تميل نحو الغروب،
تلقي بأشعتها الذهبية على أزقة حي القادرية العتيق، حيث تفوح رائحة التاريخ من
جدران البيوت الحجرية. عند ناصية أحد الأزقة الضيقة، يقبع حمام السنية، ذلك المكان
الذي لم يكن مجرد موئلٍ للنظافة، بل ساحةً تنبض بالحياة، ومنتدى يجمع النساء في
ظلال البخار المتصاعد، حيث تختلط الأسرار بالضحكات، والماء بالعطر.
عند
دخولك إلى الحمام، تستقبلك رائحة الغار والورد، وأصوات النساء تتداخل بين وشوشات
خافتة وقهقهات مرحة، وكأن المكان صندوق مغلق لا يعرف الرجال عنه شيئًا. في إحدى
الزوايا، جلست الحاجة صفية، امرأة جاوزت الخمسين، لكن عيناها تحملان بريق ذكاء
نافذ. كانت تعرف كل شاب وشابة في الحي، تحفظ الأسماء كما تحفظ تفاصيل حياتهم، حتى
أضحت عرّابة الزواج غير المتوجة.
لم يكن
حديث الزواج هو الوحيد الذي يدور في ذلك المكان، بل كانت هناك حكايات الحب
المكتوم، وشكوى النساء من قسوة الأيام، ونصائح الأمهات اللاتي خضن معارك الحياة،
يعلّمن الفتيات أسرار الصبر وحكمة الانتظار.
على
الجانب الآخر، كانت سلمى، شابة في العشرين من عمرها، تجلس بصمت قرب البركة
الدافئة، تغمس أطراف قدميها في الماء، بينما كانت تحدّث صديقتها هامسة:
— -لو
تعلمين يا ليلى، كم قلبي مضطرب! أمي تريد تزويجي من رجل لا أعرفه، لكني أُحب ابن
الجيران!-
ضحكت
ليلى وقالت:
— -ولمَ
لم تخبري الحاجة صفية؟ إنها خبيرة القلوب، ربما تجد لكِ حلاً
تحركت سلمى
بحذر، وكأن كلمات صديقتها أيقظت فيها رجاءً لم يكن موجودًا.
هكذا كان حمام السنية، ليس مجرد مكان للاستحمام، بل خشبة مسرح تُعرض عليه مشاهد من الحياة، تُكتب فيه قصص الزواج، وتُعقد فيه العهود، وتتردد بين جدرانه أسرار لا يعرفها سوى البخار الذي يتسلل من بين الحجارة العتيقة، ليتلاشى في هواء المدينة الحار، حاملًا معه همسات النساء إلى المجهول.
(5)
كانت الحاجة صفية جالسة على مقعدها الخشبي
العتيق، الذي حفر عليه الزمن أخاديد الذكرى، تتكئ على وسادة محشوة برائحة الماضي،
في ركنها المعتاد من غرفتها داخل حمام السنية. تسرب البخار في الأجواء كأنه أنفاس
الزمن ذاته، يعانق جدران المكان العتيقة، حيث تهمس بلاطات الأرض بصدى خطوات
العابرين.
دخلت سلمى كنسمة حائرة، تمشي بترددٍ يشبه موج
البحر حين يتلاشى عند الشاطئ، وعيناها غارقتان في بحرٍ من الهموم. اقتربت ببطء،
وانحنت لتطبع قبلةً على يد الحاجة صفية، التي ردت عليها بابتسامة ملؤها الحنوّ
والحكمة، ثم أشارت لها بالجلوس إلى جوارها.
تنهدت سلمى، وكأنها تحاول إخراج جبلٍ من داخل
صدرها، ثم قالت بصوت يقطر حسرة:
ــ يا حاجة صفية، قلبي ليس بيدي، وأهلي
يريدونني أن أضعه في يدٍ غريبة، في حين أنه قد وجد منذ زمن كفه التي تلائمه...-
رفعت الحاجة صفية حاجبيها، وراحت تنظر إلى
سلمى بعينين خبأتا دهورًا من الحكايات، قبل أن تسألها بلطف:
ــ -ماذا حدث يا ابنتي؟-
ارتعشت أنامل سلمى وهي تشبكها في حجرها، ثم
همست وكأنها تودع سعادتها للأبد:
ــ -يريدون تزويجي من رجل لا أعرفه، بينما
قلبي، يا حاجة، يسكن في بيت الجيران منذ أن عرفت معنى الحب...
سكتت للحظة، ثم أضافت بصوت يلامس أطراف
الدموع:
-هو أول من رأيت، وأول من ابتسمت له، وأول من
فهمت معه معنى أن يزهر القلب في غير أوانه...
أطرقت الحاجة صفية للحظة، ثم رفعت رأسها ببطء،
وصوتها يحمل دفء الشتاء في ليالي القرى:
ــ -يا بنيتي، القلب مثل طائر، لا يعرف القفص
إلا إذا أُجبر عليه، لكن هل فكرتِ في جناحيك؟ ... في مدى قوتهما؟
أطرقت سلمى برأسها، وكأنها تحاور قلبها بصمت.
كان الحمام يضج بالبخار، لكن في داخلها كانت العاصفة أشد. تناثرت قطرات الماء
حولهما كأنها دموع عالقة بين الفرح والخوف.
لمست الحاجة صفية يدها برفق، وقالت بصوت ينساب
كالماء:
ــ -أحيانًا يا سلمى، لا يكون الطريق الذي
نريده هو الطريق الذي كتبه لنا الله، لكن القلب، إن كان صادقًا، سيجد السبيل
دائمًا...-
نظرت سلمى إليها بعينين تشعان رجاءً وحيرة،
بينما انطلقت من بعيد ضحكات العرائس، يتردد صداها في أرجاء الحمام، حيث كانت
الحياة تمضي، لا تنتظر أحدًا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق