{ عناق الأرواح }
فتح عدنان عينيه تسمّر بصره في السقف برهة، نظر إلى الساعة، قام مسرعا هرع إلى الخارج اقتطف بعض أعواد الريحان من أرضه وأسرع في خطاه إلى مقبرة القرية، الذي يعيش فيها
وضع الريحان على القبر، وجلس يحاوره؛ حبيتي تأخرت عليك أعرف إنك تنتظرين زيارتي، وتريدين سماع أخبار أولادنا، وبدأت دموعه تنهمر بغزارة، سنة على رحيلك، وأنا أحاول الثبات أمامهم وأقوم على رعايتهم كما كنت تفعلين،
لكن أعترف لك دون خجل أنني أضعف مما كنت تظنين، أنا غير هذا الرجل القوي الذي كنت تشاهدين! كنت أستمد القوة منك دون أن تشعرين،
وأخفي ضعفي وراء صبرك لكي تشعري إنك تسندي ظهرك على حائط متين!
لكن هذا الحائط إنهار، تفتت برحيلك لم أشعر أنني تجاوزت الستين عاما إلا بموتك..
كفكف دموعه وتمتم أعرف لاوقت للدموع يجب أن لاأتاخر على الأولاد.
لكن أود إخبارك، أن كل يوم ولدنا زاهي يبكي بدون صوت وهو يحرك كرسية بحركات جنونية أمام صورتك وأحيانا يرفض الطعام، ويبقى يوما كاملًا بلا طعام ولاشراب!
حتى يرى دموعي مع توسلاتي، فيأكل مع وعدي له انني سأتي به لزيارتك، أما ولدنا شادي فلا لاأستطيع تركه بلا قيود بعد رحيلك! أخاف عليه أن يخرج إلى الشارع والأطفال ترميه بالحجارة وتعذبه، لاتخافي هي ليست قصيرة أتركه يخطو بكامل الغرف ويفعل مايشاء، وكل يوم أجلب له ألعاب جديدة، والدكتور يأتي كل اسبوع للعلاج ويقول أن حالته ساءت برحيلك وأصبح عقله في تراجع وقال إنك كنت تفعلين بيوم معه مايفعله هو بعام! حتى نوبات الصرع ازدادت لا أعرف ماذا كنت تفعلين أكثر مما أفعل؟ لكنني على
يقين أن هو ذاك الحبل السري له سحر لا أستطيعه! بدأت أشعر بالإحباط،
يقين أن هو ذاك الحبل السري له سحر لا أستطيعه! بدأت أشعر بالإحباط،
لا أعرف كيف تحملت ياحبيبتي كل هذا العناء والجهد خلال العشرين عاما! منذ أن خرجا زاهي وشادي توأمًا إلى الدنيا؟ واحد معاقا عقليا والثاني مشلولًا!
أعرف أنني السبب! نعم أنا من أحببتك وأنا من سعيت للزواج بك رغم أنك ابنت عمي وخالتي، وحذرنا الدكتور من الزواج من أجل (الجينات الوارثية) وأمراض الدم!
لكن حبنا كان أقوى لم نستطيع الوقوف أمامه، حبنا الذي صمد أمام العائلة،
وجعلنا نترك لهم المدينة ونهرب إلى الريف ونتزوج ونعيش فيها بعيدا عن الأهل والأقارب!
يوم ولادتك؛ جاءت أمك لزيارتنا خلسة من والدكّ قلبها انفطر عليك واسمعتني كلام قاسي! لكني عذرتها.
يومها شعرت بفادحة إصرارنا على زواجنا وهذه الكارثةالتي أورثناها لطفلينا!
قبلت يداها لكي تأتي لزيارتك كلما سنحت لها الفرصة، لكنك أنت بقيت صامتة صامدة، وكأنك تقولين لاأريد أحدا، أريدكم بعيدًا عن حياتي! أعترف أنك كنت أقوى مني..
أعترف أن جَلدَكِ أعطاني القوة والمدد..
آ.آ.آه ياحبيبتي كم أنا تعيس وضعيف بدونك، أحاول أن أقوم بدورك مع الأولاد لكن أشعر بالفشل! لاأرى أنني أعوضهم عنك ولو قليلًا،
زاهي الذي عقله كاملاً حزنه عليك كبيرًا ولايوصف، وكل يوم يزداد وصورتك لاتفارق عينيه!
حتى شادي كل ليلة؛ يزداد شراسه، وهو لايريد أن ينام حتى تعودين! هو يعرف أنك مسافرة وستأتين، ويتوعدك عندما تأتين أنه لن يكلمك ولن يسمح لك أن تقومي بتغسيله..
كم تمنيت لو أنا الآن مكانك وأنت مكاني، لكان الأولاد وضعهم مستقرًا، أفضل مما عليّه الآن.
بتّ الآن أخاف أن أموت ولاأعرف ماذا سيحصل لهم!
في يوم قال لي الدكتور لماذا لاتضعهم في مصح لكي يأخذوا العناية التامة، لكني رفضت بشدة، كلماتك الأخيرة طنين لاينقطع في أذني وأنت في سكرات الموت:
زاهي وشادي أمانة في رقبتك لاتبعدهم عنك حتى الموت! هل أسرّ لك بأمر: أتمنى من الله أمر غريب؟ وهو أن يأخذ الله أمانته ويتوفى الأولاد قبلي! لكي أضمن لهم الراحة الأبدية خوفًا من أن يأتي أحدًا بعدنا يظلمهم..
رغم أن أختي الصغرى لم ترزق بأولاد، وزوجها طلقها وقلبها رقيق أنت تعرفي ذلك، جاءت لزيارتي بعد رحيلك وطلبت أن تبقى معي لرعاية الأولاد، ولمست منها صدق وحنان عليهم بعد أن قضت نهار كاملا معهم، إلا أنني رفضت بشدة لاأريد أحد يراعاهم غيري لكي تنعمي في قبرك،
لكن لا أخفيك سرًا؛ تكلمت مع المحامي وطلبت منه أن يسجل الأرض الذي زرعناها حبا قبل الزرع.. والبيت الذي بنيناه بحبنا ووفاءنا لبعض؛ بإسم ولديّنا وأن تكون الوصاية عليهم لأختي الصغرى بعد موتي، لأني واثق أنها حنونة وسترعاهم حق الرعاية..
أعرف أنني أطلتّ الغياب على الأولاد، والآن حان وقت إطعامهم.. سأعود لزيارتك لاحقًا، وسأحاول أن آتي بالأولاد معي ربما يأنسوا بزيارتك ويشعرون بالراحة!
كفكف عدنان دموعه من جديد وخرج مسرعًا من المقبرة.
على مشارف المنزل سمع صوت ضجيج الناس، وألسنة النار تلوح من منزله! هرول مسرعًا ليدخل لإنقاذ أولاده؛ منعه بعض الجيران! لكنه لم يأبهّ، ودخل لينقذ ولديّهِ ولم يخرج!
وحين وصول سيارة الإطفاء كان المنزل رمادًا بكل مافيه.
فوزية الكوراني / سوريا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق