Translate

موت الحياة قصة قصيرة للكاتبة السورية / روزيت عفيف حدّاد



 موت الحياة

انتابتهم جميعاً نوبة بكاء مرير، التمّ الجيران وجاء الأهل مهرولين إثر اتّصال من أحد المقرّبين، يبكون ويواسون، يتساءلون ويسألون: لماذا؟ بعد عدّة ساعات خرج الجميع مثلما دخلوا، لا وداع ولا استقبال. أغلقت النّوافذ والباب بالقفل، هذه الليلة ستنام وأطفالها والقهر، وليالٍ أخرى قد تكون طويلة وأشدّ قهراً. شخصيتها المتماسكة والواثقة، قوّة أعصابها وشعورها بالمسؤوليّة الكبيرة التي ستحملها وحيدة، شدّ من إزرها، حياتهم المشتركة الجميلة وحبّهما كانت دافعاً قويّا للمحافظة عليها.
طلع نهار جديد وهي ما زالت في القديم، بكاء وزعل وخوف... لم تذهب إلى عملها، كذلك الأطفال بقوا في البيت، جمعتهم كما لو كانوا كباراً، شرحت لهم الوضع الجديد وجهلها بالقادم، لكنّها أضافت: سنعيش كعادتنا، كأنّه بيننا. شهق الأولاد، لم يغب عن بالهم منظر الكلبشات حول يديْ أبيهم القويّة، التي كانت ترفعهم معاً إلى الأعالي، كيف منعه الشّرطي من مساعدة طفلته وتقبيل جرحها وتضميده، إثر وقوعها وهي تركض خلفه باكية وتناديه.
استمرّت حياتهم على هذا الأساس، كرسيّ الأب ما زال في مكانه، تشغله بدلة أنيقة، أدوات الطّعام أمامه، يجلسون حول الطّاولة، يحكون ما جرى معهم في المدرسة، يطرحون مشاكلهم، تترك لهم الأم فرصة للتّفكير، يتناقش الجميع حول الموضوع المطروح، كلّ يبدي رأيه، رغم صغر سنّهم، فهم ما زالوا في المرحلة الابتدائيّة، ثم تقول لهم: بابا رأيه هكذا، أنا أعرف تماماً كيف يناقش هذه الفكرة، أو، سنؤجل الرّأي الأخير حتّى زيارتي القادمة إلى بابا.
طالت فترة الاعتقال، كانت تزوره دائماً في الموعد المحدّد، لكنّ هذا الموعد لم يتوافق مع دوام الأطفال في مدارسهم، لذلك كانت زياراتهم شهريّة، تضطر إلى تغييبهم عن المدرسة وتقوم هي بتعويض الدروس المفقودة. أصبح الأولاد في مراحل متقدمة لا تستطيع فيها القيام بدور المدرّس أو إحضار مدرّس خصوصي، ولأنّها تريدهم مجتهدين من أجل تأمين مستقبلهم ويفرح أبوهم بهم، ولأنّ دخلها محدود إضافة لبعض الأعمال البسيطة التي تتقنها، أصبحت زياراتهم متباعدة، لكنّ رسائلهم إليه متواصلة، أمانة غالية في يد أمّهم.
كانت حياتها صعبة ومرهقة، هي الأم والأب، يجب أن تكون قويّة، لكن ما إن تختلي بنفسها حتّى تختلي بضعفها، تسيل دموعها وتخلع ثوب القوّة التي تتظاهر بها، تشكو همومها وتفضفض إلى صورته ووسادتهما لتزيح حملاً ثقيلاً من نهارها، تتأمل صورتهما معاً، يده تطوّق كتفيها، تشعر بالحنان والحبّ، تمدّ يدها لتمسك يده، تغمض عينيها لتراه جيّداً وتغيب في حناياه، تصحو دامعة من حلم اليقظة وبحزن تسقط يدها خالية الوفاض. من عينيه تستمدّ سنداً لليوم التّالي.
وصل أكبر الأولاد إلى سنة التّخرج من الجامعة، ووصلت معه المفاجأة السّعيدة التي انتظروها طويلاً: زيّنوا المنزل، جهّزوا أطايب الطّعام، دعوا الأهل ليستقبلوا معاّ أبيهم، أجل، اليوم، أبوهم عائد إليهم، فرحتهم كانت كبيرة جدّاً، ها هو الكرسيْ الشّاغر يمتلئ حقيقة وليس وهما.
لكن الأيّام خذلتهم، تمرّ عكس ما كانوا يعرفون ويأملون.
اختلف كثيراً عن السّابق، كما اختلف عليه الأولاد، أصبحوا في سنّ الشّباب، متفوّقين في دراستهم وأخلاقهم، نضجوا وتجاوزوا سنّ المراهقة، علّمتهم الأيّام والتّجارب الشّعور بالمسؤوليّة وأكسبتهم الوعي والاتّزان الذي تجاوز سنين حياتهم.
كما هي العادة، تتناقش العائلة في أمورها حول مائدة الطّعام، لكنّ الأب أصبح عصبيّاً، حادّ الطّباع، لا يترك للتّفاهم مطرح، يتشبّث بأفكاره، النْقاش بيزنطيّ دائماً. حاولت الأمّ كثيراً أن تكون وسيطاً عادلاً، اتّهمها بسوء تربيتها للأولاد وتضامنها غير المسؤول معهم، كانت تسعى لردم الهوّة بينهم، هي تدرك تماماً ما كابده من عذاب وبعد وبرد ووحدة.... لكنّ طباعه أصبحت صعبة، يتصلّب في أفكاره وآرائه رغم عدم صحّتها وانسجامها مع تفكيرهم، ابتعد كثيراً عن مفهومه القديم: كن صديقاً لأولادك، حتّى أنّه يمارس أفعالاّ عدوانيّة واستفزازيّة تجاه زوجته خارجة عن نطاق سيطرته.
استمرّت الحياة في توتّر يتفاقم يوميّاً.
في أحد الأيّام، انتظروه على الغداء، على العشاء، اتّصلوا بمعارفه، بأهله.... لا خبر ولا تبرير لهذا التّأخير.
صباحاً، انطلق الأولاد إلى شؤونهم، بقي الزّوجان يبحثان عن حلّ وطريقة إيجابيّة لحياتهما، درسا الموضوع من كلّ جوانبه وكان القرار الحاسم والصّعب الذي أعلنه الأب على مائدة الغداء:
- اتّفقنا على الإنفصال، سأقيم، أنا، في منزل جدّيكما، هناك، أشعر بالرّاحة لذكراهم، هو مفتوح لكم أيضاً متى رغبتم. أحبّكم كثيرا.
روزيت عفيف حدّاد
سوريا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات مميزة

DR. MUJË BUÇPAPAJ - ALBANIA .. Poet Mujë Buçpapaj was born in Tropoja, Albania (1962). He graduated from the branch of Albanian Language and Literature, University of Tirana (1986).

DR. MUJË BUÇPAPAJ - ALBANIA  Poet Mujë Buçpapaj was born in Tropoja, Albania (1962). He graduated from the branch of Albanian Language...

المشاركات الأكثر مشاهدة