الظِّل
للكاتب العراقي
صابر المعارج
بشغف نصغي، ونتمنى أن لاتنتهي الحكاية، صوته الهادئ، وحديثه المعتق بالثقة والاتزان يفرضان عليك الانتباه إليه وبشدة.
في جلسات الليال الباردات منها والدافئات على حد سواء؛ هو قطب الرحى، وصوبه ترنو العيون.
أنّى حلّ؛ حلت الألفة السكينة، ولم يعكر الصفو ذاك، غير بضعة السنين تلك والتي حملت عنوان الجدب والعطش، فلقد أُنهِكت الأرض، وانحسرت الحقول، وفاقت القيعان البور مدّ الأبصار...
وصار بإمكانك أن تعد وبيسر أضلاع من لم ينفق من الماشية!
لم تُضعف مقاومته إصرار أبي على التخلي عن فكرة انتظار المطر، والشروع-على عجل- ببناء مصنع صغير لتدوير النفايات، وظل جدي يواصل رفض خطط إبنه-أبي- بعناد وكبرياء المتجذرين في محبة أرضهم حد الوله.
وحتى إلى ماقبل أيام قلائل، حيث لوحظت أخيرا محاولاته الانفراده بنفسه، وصار إذا ما تكلم؛ بانت نبرة الشجن في صوته، ولم يعد يحفل كثيرا بالمتحلقين حوله، وأمسى يكتفي بكلمات موجزات إذا ما تحدث أو أجاب، وأحيانا أخرى يكتفي بالإيماء فحسب.
يبدو لي أن جدي في تلك الآونة، كان يخوض حوارا مريرا بينه وبين ذاته! فأما المضي في تمسكه بأرضه، رغم يقينه باستحالت الحصول على المياه لريّها، وبالتالي مجهولية العواقب، أو الرضوخ لإرادة إبنه وفقدان الأرض وإلى الأبد.
ذات ضحى، وكعادتي في ملازمته في حلّه وترحاله، وكانت لعبتي المفضلة مراقبة ظله، لأول مرة لاحظت انحاء ظل جدي! ، فما كان مني إلا أن أناديه ضاحكا:
-جدي جدي! لقد أحدودب ظهر ظلك!
ولا أدري هل صعق من دقة ملاحظتي، أم أصابت قلبه شظايا رعونتي، إثر إخباره وإن بصورة غير مباشرة ودون قصد مني ببلوغه مراتبا متقدمة في سلم شيخوخته؟
تسمر مكانه، وببطئ استدار نحوي، ثم جثا على ركبتيه، ليساويني بالطول، وليحيط خديّ بكفيه الخشنتين، ويمعن النظر مليا في عيني، وكمن يستل كلماته من سويداء قلبه، قائل:
- بني! ظلالنا نسخ أرواحنا التي ماانفكت تعانق الأرض منذ الأزل!
وكانت على شفتية أبتسامة ذابلة، وفي طرفي عينية كابدت السقوط دمعة حائرة، ثم أردف:
-إن أنا غبت؛ سترافقك هذه الأرض، وظلي!
..........
قبيل بزوغ شمس ذلك اليوم الخريفي البارد، شق نحيب عمتي، صمت ذاك الفجرالمهيب، تبعه عويل أمي، ثم تتالى النحيب، وتوالت الصرخات من كل حدب في قريتنا الصغيرة، فيما شرع أبي يقود الرجال مرددا وبصوت لايخلو من حماس!:
-لا إله إلا الله
وهم يرددون وراءه:
-لا إله الا الله...
ووسط ذاك الجمع، ثمّة شبان أربعة يسيرون بانتظام، رافعين على أكتافهم صندوقا خشبيا مستطيلا، قاصدين مكانا ما، قيل لنا وقتها إنه هناك، وراء التلال البعيدة، قريبا من مغيب الشمس، يدعونه بالمقبرة، زاعمين أنهم ذاهبون لمواراة جثمان جدي فيه...
تطلعت فيهم بازدراء، وضحكت في سري ووصفت جمعهم ذاك بالبلداء! وحثثت خطاي الصغيرة وراء جدي الذي تركهم خلفه، حاملا مجرافه على كتفه، ومضى عكس اتجاههم، قاصدا مشرق الشمس...
وكعادتي كنت مستمتعا بالسير وراءه محاولا ما استطعت فتح خطاي، طابعا إياها فوق خطاه- مراقبا ظله- وهو يتجه نحو الأفق البعيد باحثا عن أرض بكر ولنبدأ معا ببذر الحب وزراعة الحقول من جديد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق