عبور اللعنة
للكاتب المغربي
عبد الغفور مغوار
في ليلة رعديّة، اهتزت للعاصفة جدران وأعمدة وأسقف ذاك المنزل، وما كان هناك من منجى واحد للبقاء على قيد الحياة، رغم التقَاط الجرأة من جوف الظلام وخوض رحلةٌ متهورة إلى أعماق الألغاز الوجودية. هكذا بدأت أحداث هذه القصة المثيرة والمشوقة، في عالم مليء بالأسرار والمخاطر.
في بلدة صغيرة تحيط بها الغابات الكثيفة والجبال الشاهقة، عاش جواد، رجل غريب المزاج، بهيئة غير مألوفة، منعزل بطبيعته، ليس له أصدقاء في البلدة. كان يمتلك منزلاً قديماً في أعماق الغابة ورثه عن جده، لكنه هجره لمدة طويلة لتوالي فترات غيابه قبل أن يستقر في أرض الوطن متخذا له منزلا صغيرا على جانب الطريق الرئيسي للقرية. كان الرعب بشكل متواتر يلاحق سكان البلدة حول ذاك المنزل الذي امتاز بسمعته الضبابية.
الغابة كانت مكانًا مريبًا وخياليًا في نفس الوقت، حيث كانت الأشجار العتيقة تتكاثف بشكل فظيع، وكأنها شهود على أسرارٍ خفية. الظلام الدامس اعترى هذه الغابة ذات ليلة باردة، وبدت الأشجار كظلال تتربص بكل مخلوق يقترب. أما المنزل القديم الذي يمتلكه جواد، فكان يعكس لوحة رهيبة تذكر بأفلام الرعب، حيث كان محاطا بأشجار عظيمة ومتينة تخفيه عن الأنظار، تاركةً الأسرار تتجلى في الألوان الداكنة، كان يبدو وكأنه جزء من العالم السفلي الشيطاني.
أخذت السماء تعلوها طبقات من السحب الرمادية، والرياح تعصف بشدة. وقف جواد أمام منزله القديم، ولم يدر كيف جرته الصدفة إلى هناك. صار يستمع لأصوات مرعبة تخرج من داخله. لم يكن يعرف ما الذي كان ينتظره هناك، لكن فضوله جعله يخطو بحذر نحو الباب المقفل.
فجأة، اهتزت الأشجار واشتعلت الأنوار، وبدأت الأصوات تزداد وتتجلى بصور مبهمة. سمع صريرًا وكأنه صوت بوابة تفتح ببطء. ذهبت الأنوار وعادت بشكل متقطع، تظهر وتختفي، بدا له وكأن هناك حياة خفية تتجسد في تلك اللحظات داخل المنزل. تجمد جواد للحظة، ثم اقترب ببطء من الباب، محاولًا تجاهل الفزع الذي تسببت فيه هذه الظروف اللعينة. ففي لحظة، انفتح الباب ببطء، وكأنه كان يستجيب لهمسات الرياح، خفتت الأضواء بشكل غريب داخل المنزل من تلقاء نفسها.
همس جواد: "من هناك؟" ولكنه لم يأته جواب، إلا أن الباب أخذ يفتح ببطء، ليكشف عن عمق المنزل، ولا شيء كان واضحًا. أصر جواد على المضي قدمًا داخل هذا الفضاء المظلم، لكنه كان يعلم أن الحقيقة قد تكون أكثر رعبًا مما يتخيل.
تعالت الأصوات المبهمة المروعة، وتحوّلت الرياح إلى نحيب يحمل معه أسرارًا قديمة. اقتربت صوفيا، ابنة الحارس السابق للمنزل، مع زوجها بلال، متحدين غموض المنزل الملعون.
كانت السماء مظلمة تمامًا، ولم يكن هناك إلا ضوء خافت يتسلل من بين النوافذ المكسرة، وينير المبنى المهجور. كانت خطواتهما تصدر صدى مجفلا في الهواء البارد، وكأنها تحاكي أصوات كائنات غير مرئية. في تلك الليلة العاصفة والمظلمة، كانا الزوجين في طريق عودتهما من زيارة لأصدقائهما الذين يعيشون في البلدة المجاورة. بينما كانا يترددان في مواصلة الطريق وتجاوز المنزل، أو استكشاف ما يحدث داخله في هذه الليلة المشؤومة، أحسا برغبة غير مألوفة في المجازفة، وكأن شيئًا كان يجذبهما نحو المنزل المهجور. أخذا يشعران بأن هناك قوى خارقة تشدُّهما نحو هذا المكان الذي أطلق في خيالهما الفضول.
كانت صوفيا تعتقد بأن هذا المنزل يحمل أسرارًا لم ترو، وأن الليلة قد حانت لكشفها. بينما بلال، رغم هلعه، كان يحاول مواجهة مخاوفه واكتشاف حقيقة ما يجري في هذا المكان الذاعر.
بدأت الأمطار تتساقط بشدة، والرياح تزيد من عنفوانها، وكأنها تحاول منعهما من الاقتراب. لكنهما تجاهلا ذلك وسارا بثبات نحو المنزل، حيث اشتدت الرياح وانعدمت الرؤية بسبب كثافة الأمطار. فجأة، ظهرت الأشجار بشكل غريب كأشكال هائلة تحوم حول المنزل، وكأنها تحميه أو تعكس حالة الغموض والتوتر التي يختزنها. وبينما كانا يقتربان أكثر، لاحظا توهجًا خافتًا يتأرجح في الهواء يأتي من داخل المنزل. ولربما انبعثت روح عجيبة من بين أسواره القديمة، تناديهما ليخوضا المحنة المنتظرة. بدأت الأبواب تتحرك ببطء استجابة لهذه الروح، أغلقا المظلات واتجها نحو الباب بجرأة تتأرجح بين الشجاعة والتردد. في لحظة اقترابهما من باب المنزل، شعرا بزلزلة في الأرض تحت أقدامهما، كما لو كانت الأرض تتنفس، مما أضاف إلى رعب اللحظة رعبا إضافيا.
سأل بلال بصوتٍ هامس:
- "صوفيا، هل تعتقدين أنه يمكننا حقًا كشف غموض هذا المكان الملعون؟"
أجابت صوفيا بحيرة:
- "لا أدري، بلال، ولكن يجب أن نحاول. هناك أسرار يخفيها هذا المنزل، وعلينا معرفة ما هي."
في لحظة من التردد والتفكير، اقتربا أكثر، ودفعا الباب بحذر ليدخلا المنزل. أضاءت الشموع القديمة المتناثرة في القاعات الخلفية التي أوقدها جواد قبل صعوده للطابق العلوي، مكنهما ضوؤها الخافت من رؤية جزء من الداخل. كان المنزل يبدو غاصا بالغبار والعناكب التي كانت تسيطر على كل زاوية فيه.
استمرا في استكشاف المنزل بحذر، وفجأة وجدا نفسيهما في غرفة أكثر قتامة هيجت رعبهما. كانت الأصوات تتصاعد، يبدو وكأنها تأتي من أعماق المنزل. تجاهلا الخوف واستمرا في تحدي الظلام. فجأة، سمعا ضجيجًا قادمًا من الطابق العلوي، همسات وصرخات ملتبسة. تساءلا عما إذا كان هناك شخص آخر في المنزل، فاندفعا يدا في يد لمعرفة مصدر الضوضاء. كان جواد يصارع الظلام بالطابق العلوي. حين وصل الزوجان إلى غرفة مظلمة أخرى، وجدا رجلاً مشنوقاً، كانت صدمتهما كبيرة عندما انقضت الجثة المتدلية من السقف على بلال فخنقته تحت ضوء خافت متقطع قادم من الخارج بسبب البرق. هدأ صوت بلال فارتجفت أكثر صوفيا وركضت صارخة من هول الحدث، غادرت المنزل متعثرة فوقعت في حفرة فاقدة للوعي.
ساد الظلام وانقطع ضوء البرق، وبدأت الغرفة تهتز وكأنها كانت تستجيب لهذه الكيانات المجهولة. همسات مريعة انتشرت في الجو، كانت تحذر جواد، تقول:
- "اترك هذا المكان قبل فوات الأوان."
وصار يردد هو كذلك:
- " إنه منزلي، من أنت لتخرجني منه."
ظل طوال الليل وهو جاثم على ركبتيه في زاوية من غرفة بالطابق العلوي، وكان يصرخ ويكرر:
- " إنه منزلي ولن أغادره."
هدأت العاصفة مع الفجر، وصفا الجو، وبزغت الشمس خجولة تتلألأ أشعتها فوق سطح برك الماء التي خلفها مطر الليلة السابقة. مر راع بقطعان شياهه يقصد المراعي، فكشف بالصدفة صوفيا واقعة في تلك الحفرة بلا حراك، حاول إسعافها، ولكنها لم تستفق، هرول إلى الحي يستغيث من أجل إنقاذها. تجمع الناس في ذلك اليوم التعس، مستائين لما حدث. شرع رجال الدرك في التحقيقات بمحاولة فهم الواقعة. تبين أن بلال قد توفي في المنزل بشكل مبهم. أما جواد فقد نقل على الفور لمستشفى الأمراض العقلية من أجل التحقق من قضية جنونه. فيما توفيت صوفيا لاحقًا بعد فترة من الحزن واليأس والمعاناة مع جروحها التي لم تشف. أما المنزل الذي زاد من إثارة الرعب في المنطقة، فقد قررت السلطات هدمه بما أن لا وريثا شرعيا له.
فيما بعد، تناهت إلى أسماع السكان أخبار صادمة عن العمال الذين شاركوا في الهدم: لقد فقد أحدهم أطرافه السفلية في حادث شغل، وتعرض آخر لحادث سيارة خطير توفي على إثرها فورا، أما الثالث فقد اختفى ابنه الوحيد في ظروف مجهولة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق