إصدارات
دار أمارجي
للنشر
والطباعة والتوزيع
اسم الكتاب : العجوز والبحر
نوعه : رواية
اسم المؤلف : متولي محمد متولي بصل
نوع الكتاب : ورقي قياس 14 × 21
الرقم الدولي : ISBN:978-9922-9567-3-5
عدد الصفحات : 114
تصميم الغلاف : متولي بصل
الإخراج الفني والتنسيق : متولي بصل
طباعة : دار أمارجي للطباعة والنشر -
العراق
حقوق
الطبع محفوظة للمؤلف
لا يسمح بإعادة إصدار هذا الكتاب أو أي
جزء منه أو تجزئته في نطاق استعادة المعلومات أو نقله بأي شكل من الأشكال المعروفة
حاليا أو التي ترد مستقبلا دون إذن خطي مسبق من المؤلف.
الآراء الواردة في هذا الكتاب لا تعبر
بالضرورة عن توجه الدار بل تعبر عن رأي المؤلف وتوجهه في المقام الأول وما بداخل
الكتاب مسئولية الكاتب فقط .
المراسلات
إهداء
إلى
أمي وأبي .. ..
ربِّ ارحمهما كما
ربياني صغيرا
رواية
العجوز والبحر
تأليف
متولي بصل
1
-
إذا أغلقت الأرضُ أبوابها , فأبواب السماء
دائما ً مفتوحة على مصراعيها !
سمع هذه الكلمات من الشيخ الجديد للجامع
المجاور له عندما اقترب منه بعد صلاة العشاء, بعد التسليم مباشرة, وسأله بأسىً شديد
:- يا مولانا ! عندي خمسة وسبعين سنة, وأولادي قرروا يرموني في الشارع, بعد ما
كتبت لهم كل شيء, يا ترى لو موّت نفسي أبقى كافر ؟
طبطب الشيخ بيمينه على كتف الرجل البائس بينما كان يمسح بيده الأخرى عبرة ً
انسابت علي خده, وقال له وهو في شدة التأثر:- لا تيأس .. ولا تقنط من رحمة الله,
رزقك ليس على أولادك الجاحدين "وفي السماء رزقكم وما توعدون" , وأولادك
غلاظ القلب هؤلاء إذا طوعت لهم أنفسهم أن يلقوا بك في الشارع, ويحرموك من بيتك
الذي عشت فيه كل هذه السنين, لن يستطيعوا أبدا أن يحرموك من رحمة الله التي وسعت
كل شيء .
قاطعه الرجل المسن بيأسٍ , قائلا ً :- أنا راجل عجوز يا مولانا, لا أقدر
أشتغل ولا أقدر أعمل أي شيء في السن ده !!
رد
عليه الشيخ محاولا أن يغرس فيه شيئا من الصبر :- يا عم "مسعود" اصبر فإن
الله مع الصابرين, ولا تقنط من رحمة الله, إنه لا يقنط من رحمة الله إلا القوم
الكافرون .
تساءل متعجبا :- انت تعرفني يا مولانا ؟!
من جديد ٍ طبطب على كتفه ِ وهو يقول :- طبعا يا عم "مسعود", انت راجل طيب والناس
هنا كلهم بيحبوك, ومتأثرين قوي من اللي عمله أولادك معاك, وأحب أطمنك إن أهل الحي
كلهم اتفقوا يستأجروا لك شقة تعيش فيها, والجامع ها يصرف لك شهرية مناسبة, ما
تقلقش يا عم "مسعود" الدنيا لسه بخير !
هـزّ عم "مسعود" رأسه يمينا ً
ويسارا ً بحزن وحسرة, وقد كبر عليه ِ وهو في هذا العمر أن يصبح هذا حاله ,ثم قال
للشيخ :- كتر خيرك يا بني , بس أنا مش جاي علشان أصعب عليك فتصرف لي شهرية انت
والناس الطيبين دول, أنا جاي وعاوز أعرف الواحد لما يتخنق قوي من العيشة, ويموّت
نفسه يبقى كافر ولا لأ ؟!
أمسك الشيخ بيديه يدا العجوز, وقال له وهو يعاتبه بلطف ٍ :-استغفر ربك يا
عم "مسعود" , انت راجل مؤمن, ازاي تسأل السؤال ده ؟ ده الناس كلهم
بيشهدوا لك بالإيمان والأخلاق الطيبة يا عم "مسعود" اللي بيموّت نفسه
بيموت كافر والعياذ بالله, اصرف عن تفكيرك وساوس الشيطان هذه, وخلِّي إيمانك بالله
كبير وثقتك في الله ما لهاش حدود .
وهو يخرج من باب الجامع , أحس ّ أنه يخرج من
باب الجنة ! لكن ماذا يفعل ؟ فالمسؤول عن الجامع يغلق الباب بعد كل صلاة ٍ مباشرة,
ولا يسمح لأحد ٍ بالبقاء, توسل إليه ِ ذات مرة أن يتركه لينام ويغلق الباب عليه ِ,
وقبل صلاة الفجر يفتح له , فرفض بشدة, ورغم أن عم "مسعود" أكد له بل و
أقسم له أن أحدا لن يعلم بهذا الأمر وأنه سيكون سرا إلا أن المسؤول أصرّ على الرفض,
وقال له ملتمسا لنفسه ِ العذر َ :- يا عم
"مسعود" انت عاوز توديني في داهية , ممنوع منعا ً باتا ً وجود أي حد في
الجامع في غير مواعيد الصلاة .... دى أوامر جاية من فوق
اصبر على حالك, وأهل الخير هيدبروا لك شقة في
أقرب وقت .
معه دفتر كبير وقديم يحمله معه أينما ذهب , كاد أن يسقط منه وهو يسير في
الشارع, فوضعه تحت إبطه, من الواضح أن كل من في الشارع يعرفونه ,فكلما مر ّ على
محل أو ورشة ٍ , وقف له من فيها , وحياه وهيأ له كرسيا ليقعد عليه ِ, ويستريح .
لاحظ أن الناس جميعا يبدوا عليهم
الاهتمام بما كان يُعرض من أخبار ٍ على شاشة ِ التلفاز في هذا الوقت , فقد كانت
شاشات التلفاز في المحلات وفي الورش كلها تعرض أخبار الاستعداد للافتتاح الكبير لقناة
السويس الجديدة على جميع القنوات , والأغاني الوطنية تملأ الأسماع والأبصار لا صوت
يعلوا فوقها , أحيانا ً فقط يقطع هذه الأصوات صوت سرينة سيارات الشرطة أو عربات
الجيش التي تجوب في كل مكان استعدادا ً لتأمين الاحتفالات .
وصل إلى باب العمارة, إنها عمارة كبيرة على مساحة قيراط كامل من الأرض , كل
دور من الخمسة أدوار عبارة عن شقتين فارهتين, والدور الأرضي عبارة عن محلات كبيرة,
إنه يعرف كل شيء عنها فهو الذي بناها طوبة ً فوق طوبة ٍ بعرقه ِ وماله ِ , طاف
بصره ُ في واجهتها الأمامية, فلمّا وصل إلى الدور الأخير كاد أن يفقد توازنه, ويقع
على ظهره, أراد أن يصرخ بأعلى صوته, ويصيح قائلا ً :- عمارتي يا ناس !! بيتي يا
هووووه .... لكنه لم يستطع, ابتلع صرخته بصعوبة, تمالك نفسه, دخل من باب العمارة ,
صعد بضع درجات ٍ من السلّم, اصطدم به ِ رجلٌ نازل ٌ - حسبه ابنه "صلاح" –
وكاد أن يسقط ويتدحرج لولا أن تشبث بالدرابزين, نظر للأسفل فلم ير وجه الرجل, فقد
كان يُخفي وجهه بيده ! شعر بالدهشة , أهو ابنه "صلاح" ؟ إنه بالتأكيد
يخفي وجهه حتى لا يراه ! إلى هذه الدرجة يتنكر له ابنه , ما كل هذا الجحود ؟!!
أحس ّ بغصة ٍ في حلقه ِ , رفع بصره فإذا به أمام باب صغير و متهالك ,فتحه ودخل
إلى مسكنه ِ , كان عبارة عن بير سلّم , ارتمى على السرير المتهالك وأجهش في البكاء
,ولما هدأت نوبة البكاء قليلا ً , وجد نفسه يكلم نفسه كالمجنون :- العمارة دي كانت ملكي بنيتها بتعبي وعرقي وفلوسي .. .. .. وفي الآخر يكون كل حظي منها التربة دي .. ..
بير السلّم ده .. .. الحفرة دي .. .. .. ليه ؟!! ليه يا ولادي تعملوا في ّ
كده ؟! عملت فيكم إيه علشان يكون ده جزائي منكم
؟! بعد العمر ده كله ترموني في
تربة متر في متر .. .. .. !
جعله البكاء يشعر ببعض الراحة ِ , فنظر في دفتره , وأخذ يقلب بعض صفحاته ِ
, وبدأ يدندن بمقاطع من أغنيات ٍ متنوعة ٍ , غناؤه كان له نفس تأثير حقنة البنج ,
أو قرص المنوم , شيئا ً فشيئا ً ثقلت جفونه , ونعست عيناه , كان النوم هو الراحة
الوحيدة له في هذه الدنيا , وكم تمنّى لو أنه نام نومة ً طويلة ً , لا يصحو منها
أبدا ً .
لقد نام وهو يحتضن دفتره بين ذراعيه ِ , فلم يعد له في هذه الدنيا إلا هذا
الدفتر . ماتت زوجته , هكذا يقولون , إنه لا يصدق أنها ماتت , ربما أخفاها أولاده
, ألقوا بها في مكان ٍ بعيد إنه لا يعلم بالضبط ماذا حدث لها , لكنه متأكد من أنهم
أبعدوها كما يفعلون الآن معه , لقد طردوه من شقته , ومن أملاكه كلها بعد أن كتبها
هو بنفسه بأسمائهم . لقد كانت غلطة عمره , خطيئة حياته , كيف ارتكب هذه الغلطة الفظيعة
, هل كان مسطولا ً , أو مخدّرا ً , أو حتى مسحورا ً , كيف فعل هذا ؟!
كان يغط في نومه , ومن شدة تعبه وشقائه , كان يغمغم ويتكلم , كان يقول :-
الولاد .. .. .. الولاد ها يرموني في الشارع يا "هنية" .. .. .. زي ما
رموكي .. .. .. آه لو أعرف مكانك .. .. دليني , لو بس تدلّيني على مكانك .. .. ..
يظهر إن مفيش قدّامي غير القصر , القصر .. .. الدفتر .. .. .. الدفتر .
2
خمسة وسبعون عاما , ولايزال يحمل هذا الدفتر الكبير, جعبة أسراره, وكنزه
الذي لم يفرّط فيه ِ حتى الآن . لقد قسّم أولاده ميراثه بينهم وهو لا يزال
حيا يمشي أمامهم, كل واحد منهم كان نصيبه بيتا كاملا , وحتى الأموال التي كان يدخرها هو وزوجته طوال
سنوات عمرهما, اقتسموها هي أيضا, لم يتركوا له إلا حجيرة صغيرة عبارة عن ( بير
السلّم ) هذا, ولم يكن فيه إلا سرير اختلفت أضلاعه, وبات هو والأرض سواء بسواء, وهذا
الدفتر الذي لا يفارقه أبدا, ومن العجيب أن أولاده أخذوا منه كل شيء, إلا أنهم لم
يقتربوا أبدا من كنزه هذا الذي يحمله معه أينما ذهب, فقد كان في نظرهم مجرد دفتر
كبير وقديم,ومن المستحيل أن يكون فيه أي شيء مهم, فقد استولوا على كل الأوراق المهمة
التي مكنتهم من وضع أيديهم على الثلاثة بيوت, ووديعة كبيرة في أحد البنوك , وغير
ذلك, ولم يكن أبوهم يمتلك من حطام هذه الفانية إلا هذه الوديعة, والبيوت الثلاثة .
وفي عصر يوم ٍ محرق ٍ من أيام ِ شهر أغسطس ذلك الشهر الناري الذي كان
يناسبه أكثر أن يُسمّى "نيرون" وليس "أغسطس" , نزل هذا الرجل
الهرمالبائس من سيارة ميكروباص وهو يحتضن دفتره بحرص ٍ شديد, أخذ يتلفت يمنة ً و
يسرة ً, وهو يبحلق في كل شيء حوله, فلم يجد شيئا مما كان يعرفه, الدنيا هنا تغيرت
بصورة كبيرة, لقد جاء إلى هذا المكان منذ ثلاثين سنة, وجد نفسه يقول بتعجّب :- ده
مش شارع, ده أكيد احنا في مضمار سباق عربيات .. !!
أحد
المارة انتشله بسرعة من على أسفلت الطريق قبل أن يصدمه أحد الموتوسيكلات الغاشمة
السرعة , ودفعه برفق ٍ داخل زحام المارة على الرصيف, حتى يكون في أمان من السيارات,
وهو يصرخ فيه :- يا حاج .. .. !! انت
مستغني عن عمرك ؟! .
ردّ عليه ِ بابتسامة غابت عنه منذ سنوات ٍ, وهو يكافح الحر ّ و العرق َ
بمنديله ِ القماشي , وقال وكأنما يسخرُ من حاله :- عمْر إيه يا ابني .. أنا مت من
سنين .. أنا مجرّد ..
لم يكمل كلامه, فلم يعد يرى الشاب النبيل الذي أنقذه, والذي كان يكلمه منذ
قليل ! ابتلعه الزحام فجأة ً . كاد من شدة الحر ّ والتعرّق ينسى ما جاء من أجله ِ,
لكنّه سُرعان ما تذكر عندما نظر َ إلى دفتره الذي كان يحتضنه بين ذراعيه ِ, تلفّت
َ حوله متسائلا ً :- القصر فين .. ؟!
لقد جاء منذ ثلاثين سنة إلى هذا المكان, ودخل القصر وقلبه مفعم بالأمل,كان
قد جاوز الأربعين لكنه وقتها كان في أوج حيويته, وشبابه, وكم كانت صدمته كبيرة في
ذلك الوقت, لقد خرج من هذا القصر وقتها وهو يحمل مكان قلبه قطعة ً من اللحم ممزقة
دامية , خرج وبين يديه هذا الدفتر الكبير, وظلام دامس أحاط حياته طوال ثلاثين سنة,
سأل نفسه :- كل شيء خارج القصر اتغيّر, يا ترى جوه القصر اتغيّر ولا لسه على حاله
؟ .. بس هو فين القصر .. يظهر إني تهت !! .
أخذ ينظر أمامه وعن يمينه, وشماله, وهم ّ بسؤال أي شخص عابر, وقبل أن يفعل,
التفت فوجد القصر, ووجد نفسه أمام البوابة ! لم يكن يبعده عنها سوى بضع خطواتٍ فقط
!!
اتجه نحوها,وعندما دخل إلى القصر وجد حيطانه
من الداخل مُعلّق ٌعليها عددٌ كبير ٌمن اللوحات ِ الفنية التي تُعبّر عن أشخاص ٍ
أو مناظر طبيعية , أو غير ذلك , ووجد أمامه بابا
آخر كان مغلقا، و جوقة من الأصوات
المختلفة والموسيقى تخترقه, كأنما بداخله ِ حفل ما !
وفوق الباب إعلان ٌ كبير, أبرز ما فيه ِ هذا العنوان (أوبريت الفرصة
الأخيرة ) . التفت يمينا , وبدأ يصعد درجات السلم, إلى حيث نادي الأدب, وهو يردد هامسا
:- الفرصة الأخيرة .. آخر فرصة .. ( ثم
وهو يرفع صوته ) .. وهو لسه فيه في العمْر فرصة ؟! نظر إلى دفتره نظرة اطمئنان, ثم
دلف من الباب, قبل أن يدخل أحس ّ برهبة ٍ شديدة, وكأنه تلميذ يدخل إلى لجنة
الامتحان,قال بصوت ٍ مبحوح ٍ من الخوف :- السلام عليكم .. ورحمة .. الله ..
وبركاته .
القاعة كبيرة, وفي وسطها طاولة مستطيلة, يجلس حولها مجموعة من الناس,
والجميع يتحلون بالصمت إلا واحد كان يلقي قصيدة شعر ٍ عاميّة , وفي ركن ٍ من
القاعة دولاب مَليء بالرفوف التي تناثرت عليها بعض الكتب,أحد الجالسين عندما لاحظ
دخول عم "مسعود" أومأ له بالجلوس, وقال مبتسما ً :- وعليكم السلام ..
تفضّل يا راجل يا طيّب .. تفضّل استريّح .
وبعد أن انتهوا من سماع القصيدة, تطلع
إليه نفس الرجل, الذي كان يبدوا أنه رئيس النادي, وقال مُرَحِّبا- أهلا وسهلا ..
أهلا وسهلا .. فيه معاك حاجة عاوز تقولها
؟
تخلص عم "مسعود" من الارتباك الذي أصابه للحظات ٍ , ورد ّ بحماس
شديد :- طبعا .. أمال أنا جاي ليه !
ابتسم رئيس النادي وقال :- طيب مش تعرّفنا بنفسك الأول .. يا راجل يا طيب !
عم "مسعود" :- أنا اسمي
"مسعود الخيّاط" .. .. ..
رئيس النادي :- منين يا عم "مسعود"
؟
عم "مسعود" :- من السنانية
رئيس النادي :- السنانية .. انت شرفتنا يا عم
"مسعود" .. وانت معاك إيه ؟؟
عم "مسعود" :-إيه ؟!
رئيس النادي :- ها تسمّعنا إيه .. ؟
على الفور أخرج لهم دفتره, ووضعه على المنضدة , أمامهم , وفتحه وهو يقول
بفخر ٍ واضح
- أنا معايا أكتر من 300 أغنية .. .. ..
- يااااه .. ده انت مؤلف كبير قوي يا عم
- أصل أنا باكتب من صغري .. .. من وانا في
الإعدادية يعني تقريبا من ستين سنة, بس الأغاني اللي في الدفتر ده, الأغاني دي
كتبتها على مدار آخر تلاتين سنة في عمْري .. ..
- ربنا يديك الصحة .. .. طيب سمّعنا .. .. بس
واحدة بس كفاية عشان نتيح الفرصة لباقي الناس يتكلموا .
- طب ممكن أسمّعكم أغنيّة بمناسبة افتتاح
القناة الجديدة .. .. أنا لسه كاتبها من يومين ..ونفسي يغنّيها أي مطرب يوم
الافتتاح .. ..
- اتفضل .. .. سمّعنا !
أغلق دفتره , وأخرج ورقة ً مطويّة ً من أحد جيوبه, وفتحها بعناية, وأخذ
يدندن
-
الريس لما قال الشعب قال
وجب
راح نحفر القنال لو ها نموت
م التعب
وقبل
أن يكمل باقي أغنيته, قاطعه أحد ُ الجالسين بعصبية ٍ واضحة ٍ , وكان كبيرا في السن
هو الآخر , فقال :
- عندك كام سنة يا حاج ؟
رد عليه ِ عم "مسعود" وهو يحاول إخفاء ضيقه من مقاطعته
- أنا طلعت ع المعاش من 15 سنة تقريبا يعني د
لوقتي يبقى عندي .. ..
قاطعه نفس الرجل الهرِمأيضا ,
قائلا ً :
- خمسة و سبعين سنة .. .. تمام .. .. ؟!
رد ّ عم "مسعود" باستسلام ٍ تام,
وهو يومئ برأسه :
- تمام .. .. !!
فاجأه , وفاجأ الجميع قائلا ً :
- طيب وجي تعمل إيه بعد العمر ده كله ؟!!!
أصابت هذه الكلمات قلب عم "مسعود" , وكأنها سكاكين مسنونة لا
ترحم, بل وفتحت فيه جراحا ًعمْرها ثلاثين سنة, كادت تلتئم, لكن هذه الكلمات
مزّقتها من جديد,وكاد عم "مسعود" يطوي الورقة التي في يده, ويحمل دفتر
أغنياته, وينصرف مستسلما, لكنه بدلا من ذلك وجد نفسه يرد بهدوء ٍ شديد, ويقول :
- جي وعاوز أشارك بلدي في فرحتها .. .. جي
أشارك بالأغنيّة دي في فرحة مصر بالقناة الجديدة!
نظر "رئيس النادي" - وكان يبدوا عليه أنه في متوسط العمر - إلى
الأديب الهرِم, وقال له معاتبا :
- يا عم "نسيم" .. .. علّق على الأغنيّة اللي قالها وخلاص !
- أعلّق على إيه يا أستاذ "مؤمن" ,
ده لو كان جه من خمسين سنة, ولا حتى أربعين سنة, إنّما ده جي وهو .. .. ها ها هاها
أحد الجالسين إلي جانب الأستاذ "نسيم",
وكان مسنا مثله , لكنه كان أكثر منه مكرا و دهاءقال:
- يا أستاذ "مؤمن" هذه الطرابيزة,
طرابيزة نادي الأدب لا يجوز أبدا أن تناقش عليها أي أغنية .. لأن الأغنية لا تقوم بذاتها, فهي لا بد ّ
لها من لحن موسيقي, وأيضا صوت يغنيها, فكيف نحكم على شيء أو ننقده بدون أن يستكمل
عناصره ؟!
أعجب الأستاذ "مؤمن" بهذا الكلام, ووجد فيه مخرجا من المشكلة
التي افتعلها الأديب المسن "نسيم" , فقال موجها كلامه إلى عم
"مسعود" :- يا عم "مسعود" معاك قصيدة شِعْر فصحى أو عاميّة أو
قصّة تقولها ؟
- يا ابني أنا بألف أغاني بس .. .. وبعدين أنا
فعلا ً جيت هنا من تلاتين سنة, وكان فيه هنا واحد صدمني وحطمني, وقال لي أغانيك مش
حلوة , ومش ها تنفع , بس أنا حاسس إن الأغنية دي حلوة قوي للمناسبة دي .. ..
الأستاذ "نسيم" :- ها ها .. ..
يعني اللي ما كانش نافع من تلاتين سنة .. .. د الوقتي ها ينفع ؟!
تَطَلَّع
َعم "مسعود" إلى وجه الرجل, أحس ّ أنه رآه من قبل, أخذ يحدّق فيه, ورغم
ضعف بصره, إلا أنه استطاع أن يتعرّف عليه ويتذكره, إنه نفس الشخص الذي صدمه منذ
ثلاثين سنة, وحطمه, وقال له أن أغانيه مكانها سلة المهملات, أخذ يدقق النظر في
الوجوه التي حوله, فإذا بها نفس الوجوه القديمة, لم يتغير منها إلا وجه ٌ أو اثنان
!
"رئيس النادي" :- على كل حال .. ..
أنا أشكرك يا راجل يا طيب على حضورك, وعلى حسّك الوطني العالي ومساندتك للبلد.
عم "مسعود" :- طيب أنا عاوز أقدم
الأغنية, عشان تلحق تتلحّن قبل الاحتفال
"رئيس النادي" :- إحنا جهة غير مختصّة
بالأمر ده و .. .. ..
الأستاذ "نسيم" :- انزل تحت ها
تلاقي الأستاذ "حسين" الملحّن في المسرح , إديه الأغنية ,ولو عاوز توصية
مفيش مانع !
أخرج قلما ً وورقة, وكتب فيها بضع كلمات, ثم ّ أعطاها إيّاه, وهو يغمز
بإحدى عينيه للجالسين .
عم "مسعود" :- المسرح ده تحت .. ..
يعني أنزل ؟
الأستاذ "نسيم" :- أيوه هو تحت ..
.. الحقه قبل ما يمشي !
خرج عم "مسعود" وهو ينظر في وجوه الجالسين متفحّصا, "رئيس
النادي" شاب متوسط السن , لكن الذين يحكمون النادي بالفعل ويسيطرون عليه هم
نفس الوجوه القديمة,إلا أن الشيب قد علاهم .
وهو ينزل درجات السلم, فتح الورقة, ورقة
التوصية , فإذا فيها :
(الأخ العزيز الملحن الكبير جدا الأستاذ /حسين
.. .. أرجو الاهتمام بهذه الموهبة الفذة , وتبنّيها , وشكرا
صديقك / نسيم صبحي)
تردد في الذهاب, وبعد تفكير قرر أن يذهب إلى هذا الملحن, سأل كثيرا, وتعب
حتى وصل إليه, وما كاد يقرأ التوصية حتى انفجر ضاحكا , ولم يكلف نفسه عناء قراءة
الأغنية أو حتى سماعها , نظر فحسب إلى عم "مسعود" هذا العجوز البائس,
وقال له هذه العبارة المسجّلة التي خرجت من فمه وكأنها تخرج من "مجيب
آلي" :- للأسف احنا شطّبنا .. .. .. خلّصنا بروفات الحفلة .. .. بس ممكن تسيب
لي الأغنية , لأن فيه حفلة تانية في الاسماعيلية بعد شهر
أُصيب عم "مسعود" بخيبة أمل كبيرة , وتوسّل إليه مستعطفا ً :- يا
أستاذ "حسين" أنا راجل عجوز وما صدّقت وصلت هنا , نفسي أشارك فرحة بلدي
بالأغنية دي !
كتم
الملحن ضحكة كادت تخرج رغما عنه, وقال :
- ما قلت لك ! سيب لي الأغنية, وانا ها
حاول أدخّلها ضِمن فقرات الحفلة الجايّة .
استسلم عم "مسعود" , وأعطاه الورقة , ثم خرج وهو ينضح يأسا ً
وعَرَقا ً, ويكاد يموت حزنا ً وكمدا ً , عاد يجر ّ أذيال الخيبة ِ , لكنّه بدلا ً
من أن يخرج من الطريق الذي جاء منه , وجد نفسه
يسير في الممر المظلم الذي يحيط خشبة المسرح ! إنها الكواليس , سمع صوتا ً
بداخله يقول بسخريّة :- يظهر مكتوب علىّ
أعيش حياتي كلها في الكواليس !
في نهاية الممر المظلم, كان على بُعد خطوات ٍ من دورة المياه التي توجد في
صف المكاتب الإداريّة, وكان الممر غارقاً في الظلام إلا من بعض الأضواء الخافتة التي تصله
على استحياء من الكشّافات الكبيرة التي تسَلّط ضوْأها على خشبة المسرح , شجّعه
الظلام ,واعتقادُه أن أحدا ً لا يراه , فانكبّ على نفسه يبكي , وهو يقترب بجسده من
الأرض , وقد تقوّس ظهره , ثم جلس وأسند ظهره إلى الحائط وهو لا يزال يبكي , وأخذ
يردد أغنيته الأخيرة
-
الريس لمّا قال الشعب قال
وجب
راح نحفر القنال لو ها
نموت م التعب
لم يشعر بهذا الشبح الواقف في الكواليس, والذي كان يتابع بروفات الفرقة
الموجودة على المسرح وهو وسط الظلام! اقترب منه الشبحُ, وتوَقّف أمامه منصتا ,كان
قريبا ً للدرجة التي جعلت عم "مسعود" يشعر بوجوده, فتوَقف عن الغناء,
ومسح دموع عينيه بسرعة,بينما كان يحاول أن يرى وجه هذا الرجل الذي يقف أمامه . أخذ
الشبح يصفق بيديه ِ إعجابا ً, ثم انحنى ليساعد عم "مسعود" في الوقوف على
رجليه, بينما كان يقول له , وهو في غاية الدهشة
- يااااه , إيه الجمال ده .. .. كلام جميل
وموزون , وفيه لحن و إيقاع, وصوت ولا صوت الكروان .. .. إيه العظمة دي.. .. ..
- شكرا ً يا ابني .. .. الله يجبر خاطرك !
- بس انت حزين قوي , وبتعيّط كده ليه .. ..
وإيه اللي مقعّدَك في الضلمة دي ؟!!
- القسمة والنصيب يا ابني , مكتوب عليّ أعيش
طول عمري في الكواليس .. ..
- تعيش في الكواليس إزّاي .. .. أنا مش فاهم
حاجة , والأغنيّة اللي انت كنت بتغنّيها دي, أنا أوّل مرّة أسمعها, انت سمعتها فين
؟!!
- الأغنيّة دي بتاعتي .. .. كتبتها عشان مصر,
بس يظهر مصر النهارده مش فاضية تسمع راجل عجوز زييّ !
- بتقول أغنيتك ؟!
- أيوه .. .. أنا ألّفتها ..(أظهرَ له الدفتر
الكبير وهو يمسح ما تبقّى من دموع ٍ على وجهه بمنديله القماش, وأكمل قائلا ً ) أنا
كاتب أكتر من 300 أغنيّة .. وطنية .. وأغاني رومانسيّة وعاطفيّة , و .. ..
- انت اسمك إيه يا حاج ؟
- " مسعود " .. .. " مسعود
الخيّاط "
قال وهو يتصفّح في الدفتر بصعوبة بسبب الظلام - اسمع يا عم " مسعود
" الموضوع محتاج قعدة , إيه رأيك تيجي معايا نتفاهم .. .. دي أغانيك دي ها
تكسّر الدنيا .. .. ده انت لقطة يا راجل !
مشى معه ُ حتّى وصلا إلى بوّابة القصر , لكنهما لم يخرجا منها, بل توجّه به
هذا الرجل إلى حيث معرض اللوحات الفنّية, أدخله المعرض, وأجلسه على أحد الكراسي,
ثمّ قال له :
- استنّى هنا يا عم " مسعود " ..
.. إياك تمشي , ربع ساعة بس أخلّص فيها شغلي هنا , وبعدين أرجع لك , وان غبت عليك
(وهو يخرج من جيبه كارتا ًعليه اسمه, ورقمه , ويعطيه له ) أنا اسمي " محمد
شلبي " ورقمي موجود أهه على الكارت .
انصرف "محمد شلبي", وترك عم "مسعود" وحده في المعرض ,
ولم يكن فيه في هذا الوقت إلا امرأة وحيدة كانت تجلس في ركن ٍ بعيد , فأخذ عم
"مسعود يتجوّل ببصره الواهن ويتنقّل بين اللوحات وهو جالس ٌ في مكانه , إحدى
اللوحات شدت انتباهه لدرجة أنه قام من مكانه , ووقف أمامها مذهولا ً ! كانت اللوحة
لسيّدة ٍ عجوز ٍ ترتدي ثيابا ً رثّة ممزّقة , وتفترش شاطئ البحر, وتمد يدها تسأل
الناس ,ومكتوب أسفل منها بالبُنط العريض (العجوز والبحر )
مدّ يديه , وأخذ يتحسس وجه المرأة بشغف ٍ شديد ٍ , وكأنّه يعرفها , وقال وهو
في غاية الذهول :- مش ممكن .. .. مش ممكن أبدا ً تكون هيّ , مستحيل !
اقتربت منه المرأة التي كانت جالسة في الركن البعيد , والتي لم يكن عم
"مسعود " يشعر بوجودها , ربّما كانت صاحبة المعرض , أو المشرفة عليه,
سألته :
- فيه حاجة يا والدي ؟!
- والله يا بنتي .. .. أنا مش عارف .. .. مش
متأكد .. .. أصل الست دي تشبه قوي .. .. مراتي (وبتعجّب ٍ شديد ) شبهها .. .. دي
زي ما تكون هي ّ
- مراتك .. .. ؟!!!
- أيوه .. .. مراتي أم عيالي .. .. بس ازاي !
وهمه قالوا انها ماتت .. .. لا .. لا ..
الأوّل قالوا اختفت , تاهت , وبعدين قالوا انها ماتت .. ..
- اختفت يا والدي ولا ماتت ؟!
- مش عارف .. .. من اربع سنين اختفت , صحيت
الصبح ما لقيتهاش جنبي , ابنى الكبير بيقول خدها المستشفى عشان كانت تعبانة ,
بتشتكي من وجع في جنبها بقى له أسبوع , وبعدين جه هو واخواته , وقالوا ان امهم اختفت , تاهت ومش عارفين تاهت
فين ؟
كل يوم كنت اخرج أدوّر عليها , واسأل عنها ف كل حتّة , وف يوم مشؤوم لقيتهم
جايين يبلغوني انها ماتت, بعد ما خبطتها عربيّة , قلت لهم أشوفها ! قالوا لي انها
ماتت وادّفنت من قبل ما يعلموا الخبر بشهور ,
- حكايتك غريبة وعجيبة قوي يا والدي .. .. بس
الست اللي مرسومة دي تشبه مراتك فعلا ً ؟
- يا بنتي دي مش تشبهها .. .. دي كأنها هي !
بس معقول ؟! وبعدين هي لابسة هدوم مقطّعة وبتشحت ازّاي ..لا .. لا .. أنا مراتي ست
محترمة , وأصيلة , وبنت عز.. لا مش معقول
تكون هيّ .. دي أكيد واحدة تشبهها ..
- يا والدي ! .. .. يخلق من الشبه أربعين .
هز ّ عم "مسعود" رأسه موافقا ً , مع أنّه يشعر في قرارة نفسه أن
هذا الوجه لزوجته , إنه يستطيع أن يتعرّف عليها وهي بين مليون بني آدم .
- انت عايش فين يا والدي ؟
- في السنانية .. ..
انت عارف الست اللي في اللوحة دي موجودة فين
؟ .. .. دي في اسكندرية .. على حدود السلّوم
- يا ه
د بعيد قوي .. .. وبعدين انا ومراتي عمرنا ما خرجنا بره دمياط !
- تبقى الصورة دي مش لمراتك .. .. تمام ؟!
في نفس الوقت كان "محمد شلبي" يجلس في أحد مكاتب القصر, وهو
يتحدّث مع الملحّن "حسين", ويدور بينهما هذا الحوار
" محمد شلبي ":- مفيش و لا أغنية ف
دول تنفع , المشوار المرّة دي زي عدمه .. ..
" حسين " :- معقول ! و لا أغنية (
ثمّ أخرَجَ من جيب قميصه الورقة التي أخذها من عم "مسعود ", وطرحها
أمامه على المكتب, وهو يكمل قائلا ً) طيب , ودي .. .. إيه رأيك فيها ؟
" محمد شلبي " :- ورّيني !
ثم قال وقد ظهرت على وجهه علامات التعجّب, والدهشة :- إيه ده .. .. أغنية
مين دي ؟!
" حسين " :- حلوة .. .. أكيد عجبتك
.
" محمد شلبي ":- دي روعة .. .. و
زي ما تكون متفصّلة لمناسبة الاحتفال بافتتاح القناة ,بس بتاعت مين دي ؟!
" حسين " :- يا باشا إدّيها أي اسم
من أسماء الكبار اللي عندك , بس ما تنساش العبد لله !
" محمد شلبي " :- افرض صاحبها
مسجّلها في الشهر العقاري .. ..
" حسين " :- لا .. .. لا , من
الناحية دي اطّمئن .. .. ده واحد مغمور وعلى نيّاته, و مش في دماغه الكلام ده
عاد َ " محمد شلبي " يتأمّل الورقة , ويقرأ ما فيها , وكأنه
يغنيه :
-
الريس لما قال الشعب قال
وجب
راح نحفر القنال لو ها نموت
م التعب
" حسين " :- قلت إيه ؟
" محمد شلبي " :- قلت ان السرقة
حرام , وانا باشتغل في شركة محترمة , بتخاف على سُمعتها
قال ذلك , وهو يرد إليه الورقة , ثم قام َ , فجذبه " حسين " من
كمّه وهو يؤكد له, قائلا ً :- الأغنية لايقة قوي للمناسبة دي زي ما انت قلت , وصدّقني مش ها تلاقي أغنية
زيّها .
" محمد شلبي " :- الأغاني زي اللؤلؤ
, ومهما تكون في أعماق البحر, الغوّاص يقدر يوصل لها, وانت عارفني صيّاد, ولو انّي
صيّاد على قدّي .
ترك " محمد شلبي "الرجل يغلي من الغيظ, وانصرف فقد كان حريصا على
أن يعود َ إلى المعرض حيث ترك عم "مسعود", وعندما عاد وجد عم
"مسعود " واقفا ً أمام اللوحة
.. .. لوحة " العجوز و البحر " , ووجد المشرفة تقول له وقد دمعت عيناها
- انت طيّب قوي يا والدي .. ربّنا يصبّرك على
فراق زوجتك !
عم "مسعود" :- يظهر يا بنتي إنّي
صُعبت عليكي .. .. أمّال أنا ما بصعبش على ولادي ليه ؟!
فوجئ " محمد شلبي " بعم "مسعود" يبكي وإلى جانبه هذه
السيّدة, تبكي هي الأخرى, وتجفف دموعها بمنديل ورقي !
" محمد شلبي " :- خير .. .. إيه
اللي حصل ؟
- لا أبدا ً يظهر انّي صُعبت عليها زي ما
صعبت عليك
- صعبت عليّ إيه يا عم
"مسعود" .. .. ده انت كنز !
كلها كام يوم وتبقى أشهر و أغنى مؤلّف في مصر !
عم "مسعود" وهو لا يصدق ما سمعته
أذناه :
- انت َ بتقول إيه يا ابني .. .. انت بتتكلم بجد ؟!
- طبعا ً .. .. بس اللي أوّله شرط آخره نور,
أنا نسبتي خمسين في المائة .. إيه رأيك ؟
- يا ابني هو أنا طايل أي حاجة, اللي تشوفه ,
أنا كل اللي نفسي فيه , إن الأغاني بتاعتي تشوف النور, وتتغنّى , وأحس اني عملت
حاجة , أنا د الوقتي ما املكش من الدنيا غير الأغاني دي .
- ها تتغنّى .. .. و ها تسمّع في مصر كلها ,
ويمكن كمان بره مصر .. ..
3
اصطحب " محمد شلبي " الرجلَ العجوز معه , وتركا السيدة المشرفة والتي
كانت قد توقفت عن البكاء, لكنها كانت في حالة ذهول مما سمعته, و ظلت واقفة أمام
اللوحة التي يقول عم "مسعود" أن المرأة المرسومة فيها تشبه زوجته
المفقودة , إنها تعرف أن هذه المرأة موجودة في الإسكندرية , فهي التي رَسَمتها ,
فقد وجدتها على شاطئ البحر في منطقة ٍ نائية ٍ , كان منظرها في غاية الفظاعة بل
والبشاعة , لدرجة أن بعض من مرّوا في هذا المكان الموحش الذي توجد فيه فزعوا منها
, عندما رأوها وظنُوا أنها عفريتة , أو شيطانة , وحدها هذه السيدة هي التي قد
دفعها فضولها للاقتراب , إنها فنانة تعشق الرسم بالفرشاة , فكيف يفوتها هذا المشهد
النادر ! إنها تذكر جيدا ً كيف ظلت تحوم حول هذه المرأة المسكينة , وتقترب منها
شيئا ً فشيئا ً , مثلفراشة ٍ تكاد تهوِي في النار ! وعندما أصبحت أمامها , ورأتها
عن كثب , خرّت على ركبتيها , وطفقت تبكي بكاء ً مريرا ً , لقد كان المنظرُ صادما ً
, فالمرأة عجوزٌ واهنة ٌ, وهي تفترش الأرض
, وتلتحف السماء , وحولها أكوام ٌ من القمامة منها تقتات , إحدى ساقيها تنزف ,
وكأن كلبا ً أو ذئبا ً قد نهسها , كانت تتكلم كلاما ً مبهما ً , وكأنها تحكي ما
جرى لها , لكن ّ أحدا ً لم يكن يفهم شيئا ً مما تقول !
تجمّع الناس ُ, وبدأوا يهتمّون بأمر هذه المرأة المسكينة, وعرف الكثيرون من
أصحاب القلوب الرحيمة مكانها , وأقبلوا يمطرونها بألوان ٍ, وأشكال ٍ من الطعام ِ
والشراب , وكثير ٍ من الثياب ِالتي تناسبها, وظلت على هذه الحال أيّاما ً حتى
تطوّع َ البعضُ وأدخلوها دارا ً للمُسنّين .
مرّت هذه الذكريات القريبة العهد في رأس السيدة صاحبة المعرض بسرعة البرق,
كانت لا تزال متأثرة ًجدا ً لدرجة أنها مدت أصابعها وأخذت تتحسس بها وجه المرأة
العجوز في اللوحة .
على الجانب الآخر , أصرّ " محمد شلبي " على توصيل عم "
مسعود " إلى حيث يسكن , وبينما كان يقود سيارته في الطريق , سأله :- يا عم
" مسعود " انت سجّلت أغانيك في الشهر العقاري ؟
- لا .. .. أبداً .. .. هي حتة أرض ولاّ بيت
عشان أسجّلها ؟!
- يا عم " مسعود " بقى لك سنين
تاعب نفسك , وقاعد تكتب , وفي الآخر ممكن أي واحد ياخد تعبك و مجهودك , ويحط اسمه
على أغانيك و تبقى بتاعته هوَ مش بتاعتك انت !
- يا سلام ! هي ممكن تتسرق ؟!
- طبعا ً .. .. وعشان كده , بكره اخدك معايا
الشهر العقاري ونقوم بتسجيلهم ..
- اللي تشوفه يا ابني .. ..
لم يتركه " محمد شلبي " إلا أمام البيت , واندهش, بل وأصابته
الصدمة عندما رآه يدخل حجيرته المدفونة في بير السلّم , و يا لها من حجيرة ٍ صغيرة
, قال والدموع تسيلُ من عينيه ِ
- انت عايش هنا ازّاي .. .. ؟!!!!
- الحمد لله يا ابني .. .. الحمد لله !
توقّف فترة طويلة صامتا ً , وعلى وجهه علامات الحزن , والأسى , ثم قال قبل
أن ينصرف :- عموما ً يا عم " مسعود " الكارت بتاعي معاك , في أي وقت
تحتاج أي شيء اتّصل بيّا .. ..
ثم نزل السلّم , وركب سيارته وانطلق بها .
تمدّد عم "مسعود" على سريره , وما كاد يضع رأسه على الوسادة حتى
راح في نوم ٍ عميق ٍكان خائرَ القوَى متهالك الأوصال مثل السرير الذي يرقد فوقه ,
وقد ضمّ ذراعيه على صدره محتضنا ً دفتر أغانيه ,فمن اطّلع عليه وهو على هذه الصورة
حسبه جثة ً هامدة ً في قبر ٍ مظلم ٍأو مومياء فرعونيّة !
وفي اليوم التالي لم يستيقظ عم "مسعود" إلا قبل الظُهر بقليل ,
رغم أنّه ٌ كان قد تعوّد منذ سنوات ٍ على أن يستيقظ كل يوم ٍ قبل الفجر , ورغم ذلك
قام نشيطا ً, مُقبلا ً على الحياة , والتفاؤل يشع ُّ من عينيه , قرر أن يذهب إلى
أولاده , ويخبرهم بما حدث له مع "محمد شلبي" فطوال السنوات الماضية ,
كانوا يعتبرون هذه الأغاني التي يؤلّفها مضيعة ٍ للوقت , ويرون أنها لا جدوى منها,
واليوم حانت اللحظة المُنتَظَرَة ليؤكد َلهم أن تعب َالسنينهذا لم يكن أبدا ًمضيعة
للوقت , مؤكد أنهم سيُصعقون عندما يعلمون أن أغانيه هذه تساوي ثروة كبيرة كما
يقول" محمد شلبي " , أمسك الصورة الكبيرة المعلّقة أمامه على الحائط ,
إنّها صورة زوجته , قال وكأنه يتحدّث إليها :- يا ترى يا "هَنِيّة " انتي
فين ده الوقتي ؟! .. .. .. الولاد مرّة يقولوا تهتي .. .. .. ومرّة يقولوا مُتّي
.. .. "صلاح" من يومين كان عاوز يسَرّبني ,قال عاوز يودّيني المستشفى أصل
خايف على صحّتي , يظهر إنه هو واخواته "سامح " و " صادق "
ولادنا اللي ضيّعنا عليهم عمرنا , وحالنا , ومالنا.. .. .. يظهر انهم خلاص زهقوا
منّي أنا كمان , وعاوزين يتوّهوني زي ما توّهوكي .. يا ترى انتي فين يا هنية ؟!
تذكّر اللوحة والمرأة المتسوّلة التي تشبه زوجته "هنية" , فقرّر
أن يصعد إلى ابنه "صلاح" , ويحاول أن يرقق قلبه عليه و على أمّه ِ ويطلب
منه أن يدلّه على مكانها , سيعرض عليه كل المال الذي سيدفعه له "محمد شلبي
" , إنه على استعداد ٍ أن يكتب له تنازلا ً عنه , ويسجله له في الشهر العقاري
لو أحب , المهم أن يرد ّ له زوجته ,
وشريكة عمْره ِ وحياته .
وهو يصعد درجات السلم إلى الطابق الثاني حيث شقة "صلاح" , كان
يقول لنفسه ِ مُتعَجّبا ً :
- اسكندرية.. .. ..اسكندرية يا
"هنية" ده انتي عمرك ما عتّبتي راس البر اللي بينّا و بينها فركة كعب !!
أمام باب شقة ابنه "صلاح" توقّف قليلا ً مترددا ً ثم ّ تشجّع َ و
ضغطَ زر جرس الباب , من وراء الباب كانت زوجة ابنه تنظر من العين السحرية , لم ترد
بكلمة ! ولم تفتح له , كان يتوقع ذلك منها , فهو يعرف زوجات أولاده أكثر من أي شخص
ٍ آخر وكيف لا و بيته الذي بناه طوبة فوق طوبة لمْ يَخْرُب إلا من بعد ما وطئت
أقدامهن مداخله و مخارجه , وأولاده الثلاثة الذين ربّاهم وأدّبَهم , وكانوا أرق من
النسمة لمْ يصبحوا بهذه القسوة , والوحشية إلا من بعد زواجهم , لذلك أعطى ظهرَه
للباب , وكأنه يهمّ بالانصراف , وقال بصوت ٍ عال ٍ حتى تسمعه :
- يا خسارة .. .. .. كنت عاوز أقول لك يا
"صلاح" على الكنز اللي أنا مخبّيه , يا خوفي لأموت وتضيع الثروة الكبيرة
اللي عشت عمري كله أحوشها لك انت واخواتك , أروح بقى لـ "سامح " أو
"صادق" عشان أبقى عملت اللي عليّ .
انفتح َ الباب شيئا ً قليلا ً, ووقفت أمامه سدّا ً, لتمنعه من الدخول !! وهى
تسأله بلطف ٍ مفتعَل :- كنز إيه يا عمّو .. .. .. وثروة إيه ؟!!
كانت شابة ً جميلة ً إلا أن صورتها المعكوسة على حدقتي عينيه ـ لو أنها
دققت النظر َ فيهما ـ كانت عبارة عن أفعى مجلجلة! وكانت كلماتها في غاية العذوبة
,و مع ذلك فإنه لم يسمع منها إلا فحيحا ًكفحيح الأفاعي! توَسّلَ إليها قائلا ً:
- يا بنتي أنا مش قادر أقف .. .. ..خلّيني
أقعد أستريح من طلوع السلم !
مد
ّ ذراعيه ِالواهنتين ليفتح الباب أكثر لكنّه لم ْ يستطع , فقد كانت تحول ُ بينه
وبين الدخول , حاول أن يدفعها دفعا ً, وهو يقول :- عاوز أقول لابني
"صلاح" خبر مهم , سيبيني أكلّمه .. .. هو واخواته مش مصدّقين ان فيه كنز
.. .. بس الكنز حقيقي .. .. وموجود .
كانت رغم ما يقوله ما تزال واقفة متسمّرة أمامه , تسد ّ طريق دخوله إلى
الشقة التي كانت ذات يوم شقته ! ورغم ضعف
بصره إلا أنه لمح َ شخصا ً داخل الشقة يمرُق من الصالة إلى غرفة النوم المواجهة
للباب, وعلى الفور حسبه "صلاح" فناداه بأعلى صوته, وهو يقول :- يا
"صلاح" أنا أبوك وعاوزك في موضوع مهم .. .. رد عليّ يا ابني ! أنا عندي
خبر ها يفرّحك ويفرّح اخواتك .. .. ..
- يا عمّو
.. .. .. "صلاح" مش موجود ده الوقتي , هو راح شغله من بدري .. ..
..
- طيب يا بنتي أدخل أشوف الولاد .. .. .. دول
وحشوني قوي , نفسي أشوفهم !
- الولاد في المدرسة .. .. .. لمّا يرجعوا ها
خلّيك تشوفهم , بس قول لي كنز إيه ده ؟!
- إنتي متأكدة إن "صلاح" مش جوّه ؟!!
- أيوه .. .. مفيش حد جوّه .. .. مفيش حد
غيري .. ..و لو ما قلت ش كنز إيه ها أقفل
الباب .
أغلقت الباب في وجهه بعنف, وهى تغلي من الغيظ , ولمْ يُفاجَأ عم
"مسعود" بذلك فقد كان يتوقع منها ما هو أسوأ, ولو أنها قابلته بطريقة
أخرى لأصابته الدهشة, لكنه تفاجأ من تصرّف ابنه الذي اختبأ منه ولم يرد عليه,
إنه لم يعره أي اهتمام ٍ ,لقد رأى خياله
داخل الشقة ! صحيح أن زوجته ادّعت أنه في الشغل, لكن إن لم يكن هو هذا الشخص الذي
رآه فمن يكون ؟!!
نزل درجات السلم, وهو يستند على الدرابزين,
بينما كانت زوجة ابنه خلف الباب تهمس للشخص الذي رآه عم "مسعود" وظنّ
أنّه ابنه !
- الراجل ده أكيد .. .. أكيد .. .. بـ .. .. يخرّف !! كنز إيه .. .. وثروة إيه.. .. ؟!!!
ردّ عليها بنبرة الواثق :- لا .. .. الراجل
مش بيخرّف .. .. ده كان كلامه جَد
- وعرفت منين يا ناصح ؟!
- من صوته , أنا بعون الله أقدر أعرف البني
آدم اللي بيكدب من صوته , بيبان صدّقيني ! الراجل ده لسه مدكّن فلوس ومخبّيها عن
ولاده , ولمّا حس انه خلاص ها يودّع , ضميره صحي , وعاوز يعرّفهم مكانها .
- تصدّق كلك نباهة, قوم بقى غيّر هدومك وبالسلامة
قبل ما جوزي يطب علينا، ولا حد من الولاد يرجع من المدرسة بدري !
- بقول لك إيه .. .. أنا فيه فكرة جهنمية في
دماغي , بس لسّه بتتخمّر .. .. ها تخلّينا نقدر نحط إيدينا ع البيت و علي الكنز
كمان اللي الراجل ده بيتكلــّـم عنه .
- بعدين يا "وصفي " .. .. مش وقته
الكلام ده .. .. أنا مش مطّمنة لمجية الراجل العجوز ده .. ممكن يكون شافك وانت
طالع, بعد ابنه ما نزل .. ..
- يا عبيطة البيت مليان سُكّان, وبعدين الراجل
كان بيتكلم بجد مش بيكدب .. .. حاولي بقى تصرفي نظر جوزك عن الخطة ايّاها , بلاش
يسرّب أبوه ده الوقتي زي ما سرّب أمّه .. .. إحنا ده الوقتي محتاجين أبوه , وبعد
ما يعرف "صلاح" بمكان الفلوس نبقى نسرّبهم همه الاتنين ..
خرج َ "وصفي" من الشقــّة, ونزل السلم , ومشى في الشارع في عِز
النهار دون أن يُوقفه أحد ٌ , أو يسأله أحد ٌ , وكأنه ساكن من سكان العمارة !
وقبل أن تغرُبَ الشمسُ بقليل, كان "صلاح" و "سامح "
أمام باب حجرة أبيهم , لم يستطيعا الدخول فالحجرة مكتومة , ومظلمة كالقبر صاح
"صلاح" بغضب ٍ واضح
- ياااه يظهر إننا ظلمناك يا بابا ! .. ..
أنا كنت فاكر إن سكنك هنا ها يريّحك من طلوع السلّم, يااااه دي الأودة نار زي ما
تكون فرن, ولا فيها مروحة, ولا فيها أي شيء .. .. إنت تطلع تسكن معايا في الشقة ..
.. إيه رأيك ؟
قطع "سامح" عليه الطريق قائلا ً :-
لا .. .. بابا ها يسكن في بيتي , الشقة اللي في الدور الرابع, الساكن اللي فيها
خلصت مدّته, وها يمشي, إيه رأيك يا بابا ؟
ابتسم عم "مسعود" وهو يستمع لكلامهما , كانا يكلّمانه من على
السلّم ! إنهما حتى لم يدخلا
قال لهما وابتسامته تزداد اتساعا ً :- و يا
ترى مراتك يا "صلاح " و لا مراتك انت يا " سامح " ها توافق ع
الكلام ده ؟!"صلاح" :- يا بابا
ده البيت بيتك انت نسيت ولا إيه, ولاّ عشان بعت لكل واحد فينا نصيبه يبقى خلاص ,
ده انت الخير و البركة يا حاج !
"سامح" :- لا مراتي ولا مرات
"صلاح " يقدروا يتكلّموا في الموضوع ده , ده انت أبونا واللي احنا فيه
ده كله من خيرك , يا الله بقى تعالى معانا !
"صلاح" :- بس إيه الكلام اللي كنت
بتقوله الصُبح ده .. .. كنز إيه .. .. وثروة إيه ؟!!
عم "مسعود" :- أُمّال أخوكم
"صادق" فين .. .. ما جاش معاكم يعني ؟
"صلاح" :- "صادق" ما
يعرفش اننا جايين .. .. لو عاوز منه حاجة نكلمه في التليفون , بس صدّقني يا بابا
لو فيه حاجة عاوز تقول لنا عليها قول واحنا تحت أمرك .. ..
وجد نفسه يقول لهم :- أمكم عايشة .. .. أمكم موجودة !
قال هذه الكلمات , وعيناه تتفحّصان كل ّ حركة
و سكون تبدوا منهما , وكأنه يريد أن يتأكد من ردة فعلهما إذا كانت أمهما على قيد
الحياة أم لا , وبالفعل نزلت كلماته عليهما كالصاعقة , حتى أن "صلاح "
بدا عليه التوتر الشديد وهو يرد بتلعثم :- عايشة .. .. عايشة , مش معقول .. ..
وبدا الاضطراب الشديد على "سامح"
وهو يقول :- انت عرفت منين الكلام ده يا بابا ؟!!
عم "مسعود" :- كنت فاكر انكم ها
تفرحوا لما أقول لكم الخبر ده .. ..
"صلاح" :- يا بابا أمنا ماتت
وادّفنت , وقلنا لك الكلام ده قبل كده .. .. !
"سامح" :- يظهر ان أبوك يا
"صلاح" من قعدته لوحده في الفُرْن ده بدأ يخرّف .. ..
عم "مسعود" بانفعال شديد :- أنا ما
بخرّفـش .. .. أمكم عايشة .. موجودة .. فيه ناس شافوها على شط البحر في اسكندريّة
.. .. ىا ولادي قدّامكم فرصة تثبتوا لي إنكم بتحبوني , وبتحبوا أمكم .. .. تعالوا
.. تعالوا نخرج ندوّر عليها !
"صلاح" :- يا بابا انت بتصدّق كلام
الجرايد .. .. وبعدين الصورة اللي في الجورنال مش .. .. مش ..
عم "مسعود" باندهاش :- كلام جرايد
إيه يا ابني .. .. أنا بقى لي سنين ما فتحتش جورنال !
" سامح" :- أُمّال الكلام اللي
قلته ده جبته منين ؟! ليه بتقول انها
عايشة ؟!
"صلاح" :- إذا كان حد قال لك على
الصورة اللي في الجورنال .. صدّقني دي صورة ست تانية .. لا يمكن تكون أمنا .. ..
دي صورة واحدة غلبانة .. شحّاتة , واحنا أمنا ماتت .. ماتت .
"سامح" :- دي واحدة شبه أمنا زي ما
"صلاح" بيقول .. .. بس مش هيـّه
وُجم َ عم "مسعود" , وانعقد َ لسانه على ثلاث كلمات ظلّ يكررها
:- جورنال .. .. شـَحـَّاتـَة .. .. اللوحة .. ..
جورنال .. .. شـَحـَّاتـَة .. .. اللوحة
ولم يشعر بولديه وهما ينفلتان , حتى إذا أصبحا بعيدا ً في نهر الشارع , قال
"سامح" بحسرة وذعر :- ضعنا يا "صلاح" .. .. أبوك عرف كل حاجة
, أكيد حد في الشارع شاف الصورة وقال له .. .. إتفضحنا .. .. الناس ها تأكل وشّنا
.. .. مش بعيد يعدمونا !!
"صلاح" :- اهدأ يا أخي شوية .. ..
خلينا نعرف نفكّر .. .. أنا متأكد ان أبوك ما كانش يعرف موضوع الصورة اللي في
الجورنال , ده اتفاجئ .. .. الظاهر إننا احنا اللي عكّينا في الكلام , جايين نكحلها عميناها .. .. اتصل بأخوك
"صادق" لازم نقعد ونشوف لنا حل في المصيبة دي
قبل ما المسألة تخرج من إيدينا .
"سامح" :- ده عارف إنها في
اسكندرية .. عِرف منين ؟!!
"صلاح" :- حاجة عجيبة .. .. أبوك
لو كان عارف صحيح كان راح لها ولو كانت في آخر العالم , أبوك زي ما قلت لك ما كانش
يعرف , هو كان بيجس نبضنا ,كان عاوز يتأكد إذا كانت أمنا ماتت زي ما قلنا له , ولا
لسه عايشة
ظل
ّ عم "مسعود" متسَمّرا ً في مكانه على السلم أمام حجرته , فما قاله له
أولاده جعل عقله لا يتوَقف عن التفكير , سأل نفسَه :- بيقولوا صورة سِت غلبانة في
جورنال , شحّاتة .. .. طيب والست اللي أنا شفتها في اللوحة اللي في المَعرض .. ..
ما هي برضه ست غلبانة وشحاتة.. .. لا .. لا أكيد مراتي عايشة , أكيد هي "هنية"
, بس معقول ولادي يرموا أمهم بالوحشية دي ؟! دول يبقوا شياطين مش بني آدمين .. ..
تحامَل على نفسه , ونزل السلم مستندا ً على الدرابزين , خرج إلى الشارع , وهام على وجهه , ظل يبحث في
طيّات نفسه عن أي شخص ٍ يثق فيه , ليلجأ إليه , ويبثه مخاوفه ويطلب منه المساعدة ,
كان يغمغم كالمجنون , ويتكلم بلسانه وبدموعه :- يا رب .. يا رب .. ما ليش غيرك يا
رب .. .. أروح لمين يساعدني .. .. ؟!!
تذكّر الكارت الذي أعطاه له "محمد شلبي" , كان لايزال في جيبه ,
أخرجه على الفور , وتوجّه به إلى أقرب سنترال , كان هذا الكارت بالنسبة له مثل
جرعة ماء ردت إليه الحياة في وسط صحراء جرداء , قال لعاملة السنترال :- لو سمحتي
يا بنتي .. ..عاوز أتصل بالرقم ده !!
لاحظ
ـ رغم ما به ـ ملامح وجهها الطيبة , وآثار الشقاء التي نحتتها فيه الأيام , فتذكر
ابنتيه اللتين حرمهما من الميراث , فلم يكتب لهما أي شيء من ممتلكاته عِندا ً في
زوجيهما , فتذكر الآية الكريمة " وَ قـدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى " , فقال
وقد سرح َ ببصره ِ بعيدا ً :- احنا ظلمنا البنات يا "هنية" .. .. واللي
بيحصل لنا ده انتقام .. .. انتقام ربنا .. ..
اندهشت عاملة السنترال , وظنت أنه يكلّمها , فقالت له متسائلة :- بتقول
حاجة يا والدي ؟!
عم "مسعود" :- لا يا بنتي .. ..
أنا بس ساعات كده أسرح , وأكلم نفسي .. .. اعذريني يا بنتي !
عاملة السنترال :- العفو يا والدي .. .. ربنا
يدّيك الصحة , ويقوّيك !
عم "مسعود" :- ادعي لي أحسن ان
ربنا يغفر لي !
بدهشة قالت :- ربنا يغفر لنا كلنا .. .. كلنا
ذنوب ومفيش حد مننا معصوم .. ..
كانت قد طلبت له الرقم الموجود في الكارت الذي أعطاه لها , ثم ناولته التليفون
, فلمّا سمع صوت "محمد شلبي" من الجهة الأخرى , تنفس الصعداء , وأحسّ
أنه ليس وحده في هذه الدنيا
فعلى الرغم من أنه لم يتعرّف إلى "محمد
شلبي" ولم يلتق ِ به ِ إلا مرة ً واحدة ً إلا أنه شعر أنه الإنسان الوحيد
الذي يستطيع أن يثق فيه , ويطلب مساعدته ِ! وبعد ثلاث ساعات قضاها على الرصيف
بجوار السنترال , كالغريق الذي يتشبّث بقطعة خشب ٍ طافية ـ توَقفت بالقرب منه
سيارة نزل منها "محمد شلبي" , بمجرد أن رآه احتضنه , وأخذ يبكي كالطفل
التائه , تعَجّب "محمد شلبي" وأخذ يخفف من روعه , ثم اصطحبه معه في
سيارته .
عم "مسعود" :- أرجوك يا ابني ! أنا
مش عاوز أرجع القبر اللي كنت فيه تاني, أنا خايف ولادي يرموني أو يقتلوني, اللي يرمي
أمه في الخَلا بالشكل ده سهل عليه يعمل أي حاجة !!
"محمد شلبي" :- يا عم
"مسعود" أنا بمجرد ما كلمتني و سمعتك في التليفون بتبكي , سِبْت كل شيء
, وركبت عربيتي وسقتها لغاية هنا بسرعة جنونية , عشان أجيلك , مع إني غريب عنّك
عشان كده أنا واثق إن ولادك مش معقول أبدا ً يكونوا رموا أمهم زي ما انت بتقول ,
وإلا تبقى القيامة خلاص ها تقوم ! هوَ معقول حد عاقل في الدنيا تهون عليه أمّه
اللي خلّفته ورضّعته وسهرت على راحته , و.. .. لا
.. .. لا مش معقول ! ده كله إلا الأم .. ..
عم "مسعود" :- أصلك ما تعرفش ولادي
! إتعوّدوا ياخدوا ما يدّوش , أنا و أمهم دلّعْناهم لدرجة إننا حوّلناهم من بني
آدميين لِشياطين.. ..
"محمد شلبي" :- يا عم "مسعود" .. .. دي كلها ظنون ,
مفيش أي دليل , وبعدين انت مش قلت ان الصورة في جورنال , يبقى ممكن نتأكد إذا كانت
الصورة صورة مراتك ولا لأ بس انت عارف اسم الجورنال إيه ؟
عم "مسعود" :- لأ .. .. هُمّه
قالوا صورة واحدة غلبانة شحّاتة شبه مراتي "هنية" .. ..
"محمد شلبي" :- بسيطة .. .. الصورة
دي أكيد ضِمْن تحقيق صحفي عن الشحّاتين و المُشرّدين
يا سيدي بمجرد ما نوصل مكتبي , أقدر أطَلّع
لك الصورة من على الكمبيوتر
عم "مسعود" فاغرا ً فاه من شِدة
التعَجّب :
- ازّاي ؟ دي الصورة بيقولوا في الجورنال مش
في الكمبيوتر !!
"محمد شلبي":- ما هي كل الجرائد موجودة
ده الوقتي على الكمبيوتر , تعالى معايا بس يا عم "مسعود" .. .. تعالى
معايا وسيبها على الله !
بمجرد أن وصلا إلى المكتب جلس "محمد شلبي" أمام الكمبيوتر , وأخذ
يضغط على بعض الأزرار , وبعد قليل , أشار إلى صورة امرأة مسكينة على شاطئ البحر ,
وقبل أن يطلب من عم "مسعود" النظر إليها كان عم "مسعود"
بالفعل ينظر ويدقق بعينيه المجهدتين في الشاشة المضيئة , كانت الصورة صغيرة , وغير
واضحة , فقام "محمد شلبي " بتكبيرها حتى اتضحَت معالمُها , وهنا صاح عم
"مسعود" , وهو يشير بيده إلى الصورة :
- الصورة دي شبهها .. .. زي ما تكون هيّ بس مش معقول تكون هيّ " هنية " ,
لكن دي شبه الست اللي في اللوحة اللي في المعرض !! اللوحة اللي شفناها في قصر الثقافة
.. .. فاكرها ؟!
هز
ّ "محمد شلبي " رأسه , وهو يقول باستسلام :
- تبقى هيّ فعلا ً مراتك يا عم
"مسعود" !!
معقولة فيه في الدنيا حد يرمي والدته بالشكل
ده .. .. ده مكتوب انها في حتة مقطوعة , في آخر اسكندرية , على حدود السَلوم ,
الله يكون في عونك !
فما كان من عم "مسعود" إلا أن
انهار في البكاء , وهو يردد :
- مش بأقول لك دول شياطين .. .. شياطين !!
دول مش ولادي دول شياطين .. .. حسبي الله ونعم الوكيل .. حسبي الله !
رق ّ "محمد شلبي " لحال هذا العجوز المسكين , وتمنّى من قلبه لو
يستطيع مساعدته , ومساعدة زوجته , ووجد
نفسه يقول له :
- اسمع يا عم "مسعود " اللي مكتوب
تحت الصورة !
بعض الناس من أصحاب القلوب الرحيمة دخـّلوها
دار رعاية للمسنين , ولحُسْن الحظ العنوان مكتوب هنا في التحقيق , إيه رأيك نروح
نخرّجها ؟!
لاح في وجه عم "مسعود" نور الأمل ,
فبدأ يمسح دموعه , وقال ونهار فرحه يغالب ليل حزنه
- يا ريت يا ابني .. .. يا ريت .. ساعدني يا
ابني ! ده انت ربنا بَعتك لنا نجدة.. .. ده جِميل مش ها انساه طول عمري !
"محمد شلبي" :- يا عم "مسعود
" ده واجب عليّ , بُكره الصُبح تروح معايا , نخرّجها من الدار
عم "مسعود" :- ما ينفعش ده الوقتي
يا ابني ؟
"محمد شلبي" :- يا عم
"مسعود" الساعة الوقتي واحدة بعد نص الليل , لو رحنا الوقتي ها يفتكرونا
رايحين نخطفها ! الصباح رباح .. .. انت تنزل تبات عندي في الشقة , وبكرة ها اكون
مدبّر لك شقة كويّسة تعيش فيها انت والحاجّة .
عم "مسعود" :- الحاجّة مين ؟!
"محمد شلبي" :- مِرَاتك طبعا ً يا
عم "مسعود" !!
عم "مسعود" :- وانت ذنبك إيه يا
ابني تشتال همّي وهم مراتي , وتكلّف نفسك ؟!
"محمد شلبي" :- أكلّف مين يا راجل
يا طيب !! ده انت كنز .. .. دا انت بعد كام يوم ها تبقى أغنى مؤلف أغاني في مصر
كلها !
4
في ركن ٍ متوار ٍ عن الأنظار داخل أحد كازينوهات "رأس البر"
الكثيرة المنتشرة على النيل جلس الإخوة
الثلاثة , حول منضدة عليها زجاجتي بيرة , وفنجان من القهوة الساخنة , وبينهم نرجيلة يتشاركونها , و دخانها المتصاعد
يصنع سُحبا ً صغيرة تتشكّل في صورٍ مختلفة .
كان التشابه بينهم واضحا ً, مَن يراهم يستطيع
أن يعرف من الوهلة الأولى أنهم أشقّاء , سأل "صادق " أخويه :- خير يا
جماعة ؟
"سامح" :- مش خير أبدا ً يا
"صادق" , أبوك عرف إن أمنا عايشة , مش بس كده .. .. ده كمان عرف مكانها
, احنا لسّه جايين من عنده !
"صادق" بانزعاج واضح :- وعرف منين
؟ .. .. دي تقريبا على حدود ليبيا !
"صلاح" :- ممكن صحيح يكون عرف من الجورنال .. .. مِن يوم
التحقيق الصحفي اللي عَمَلته الصحفية إيّاها , والدنيا قايمة
"سامح" :- أنا مش عارف الصحفيّة دي
طِلعت لنا منين ؟!
"صادق" :- أنا شفت الجورنال .. ..
الصورة اللي فيه لِواحدة غلبانة بتشحت , والناس هنا عارفين إن أمكم ماتت , مش ممكن
حد ياخد باله أبدا ً من الموضوع ده . وأبوكم لو شاف الصورة مش ممكن يعرفها ,
استحالة يعرف إنها مراته !
" صلاح" :- المشكلة الوقتي مش ان
أبوك عرف , المشكلة اللي لازم نشوف لها حل بسرعة هي ان الصحفية بتقول في التحقيق
انها ها تدوّر على أهل الست دي , وانتم طبعا ً عارفين انها لو وصلت لنا , وعرفت
اننا اللي رميناها في الحتّة المقطوعة دي , مش بعيد تبلغ عنا .. .. الموضوع كِبر
قوي .. .. احنا ممكن نروح كلنا في داهية , لازم نتحرّك , لازم نعمل حاجة !
"صادق" :- اهدا شوية يا
"صلاح" , عشان نعرف نفكر , لغاية ده الوقتي همه مش عارفين هيّ تبقى مين
, ولا حتى اسمها إيه , واضح انها فقدت الذاكرة , يعني مفيش أي خيط يوَصّلهم لنا .
"سامح" :- معقول .. .. الست اللي
بنتكلم عنها دي تبقى أمنا .. .. أنا مش مصدّق اللي احنا عملناه ده !! مش دي برضه
أمنا ؟!
"صلاح" :- أمك لوحدك يا حبيبي ..
.. انت ناسي كانت عايزة أبوك يعمل إيه , نِسيت بسرعة!!
"صادق" :- خد بالك يا
"سامح" الطريق اللي مشينا فيه اتجاه واحد , الرجوع معناه .. ..ضَيَاعنا
"صلاح" :- لحظة ما يتعرف انها أمنا
, ويتعرف اننا اللي رميناها , مش بس ها نتفضح بين الخلق .. لا .. .. ده ها يبقى
سجن وبهدلة , ويمكن كمان يحكموا علينا بالمؤبد .. ..
"سامح " بذعر :- مؤبد .. ..!!
"صلاح" :- أيوه مؤبد ده فيه ناس
بتطلب إعدام اللي رموها , إعدامنا .. .. انت ما بتقراش جرايد ولا إيه ؟!!
"صادق" :- زي ما قلت لك يا "
سامح " مفيش رجوع !
"صلاح" :- رجوع إيه ! يا جماعة
الدنيا مقلوبة .. .. وستر ربنا إنها فاقدة الذاكرة , وإلا كنا رحنا في داهية من
ساعة ما لقوها !
وضع "سامح" رأسه بين يديه , ولم ينطق بكلمة , بينما أخذ "
صلاح" و "صادق" يتبادلان مبسم النرجيلة التي بينهما, والدخان
المتصاعد رائحته تدل على أن الحجر محشو بحشيش درجة أولى . وبعد فترة غير قصيرة رفع
"سامح " رأسه , وضرب المنضدة التي أمامه بكلتا يديه وهو يقول :- الله
يلعن النسوان اللي تفرّق بين الابن وأمه !
"صلاح" :- قصدك كنا نطلّق مراتاتنا
.. .. ونشرّد عيالنا !
"صادق" :- يا جماعة ! احنا ما
قتلناش أمنا , احنا ريحناها وريّحنا نفسنا من المشاكل , وبعدين كان ممكن واحدة من
مراتاتنا , وأكيد كانت ها تكون مراتك انت يا "سامح" أو مرات
"صلاح" كان ممكن تقتلها .. .. ترضى ان أمك تنقتل , ومراتك تدخل السجن ؟
ها تقول إيه لأولادك, ولنسايبك , وكان ها يبقى منظرك إيه قدّام صحابك وزمايلك في
الشغل ؟
"صلاح " :- اللي عملناه هو الصح ,
ما كانش فيه أي حل تاني قدامنا
"سامح" :- انتم أكيد بتخرّفوا ..
.. أكيد الحشيش اللي بتشربوه لحس عقلك انت وهوَ !
"صلاح" :- ولحس عقلك انت كمان ..
.. انت ناسي آخر مشكلة لمّا مراتك طلبت الطلاق , وخيّرتك بينها وبين أمك .. ..
"صادق" بسخرية واضحة :- واخترت حضن
مراتك فاكر .. .. فاكر لمّا جيت واقع في عَرْضي أنا و"صلاح" وطلبت نشوف
لك حل في الست اللي كانت ها تخرب بيتك , مش برضه كانت ها تخرب بيتك , مش هو َ ده
اللي قلته ؟!
"صلاح" :- الأحسن تفوق يا
"سامح" .. .. احنا ده الوقتي على كف عفريت , حياتنا كلها ممكن تنهد في
أي لحظة
"سامح" :- يعني عايزين منّي أعمل
إيه ؟
"صادق" :- تركز معانا عشان نشوف حل
, قبل ما حد يكتشف اللي احنا عملناه !
"صلاح" :- أمنا نقلوها من على شط
البحر , ودخّلوها دار رعاية للمسنين .. .. إيه رأيكم نخرّجها من الدار من غير ما
حد يحس , ونشوف لها شقة لو حتى أوضة , وكل فترة نروح نشقر عليها , ونشوف طلباتها
من بعيد ؟
"سامح" :- والله حل كويّس .. .. بس
ها نخرّجها من الدار بأي صِفة .. .. ولادها , نبقى فضحنا نفسنا , ورحنا للسجن
برجلينا .
"صادق" :- لا طبعا ً.. .. احنا مش
ها نخرّجها بصفتنا أولادها , احنا ها نخطفها !
ابتسم "صلاح" وقد أعجبته الفكرة , بينما صاح "سامح " معترضا
ً
"سامح" :- نخطفها ! هو احنا نخلص
من جريمة .. .. بجريمة !
"صلاح " :- يا أخي هو حد بيخطف أمه
؟ ده مش اسمه خطف , "صادق" يقصد اننا نرجّع أمنا بس من غير ما حد ياخد
باله , وإلاّ كلنا ها نروح في داهية .. .. إيه رأيك ؟
"سامح" :- إذا كان كده ماشي
"صادق" :- ما دام اتفقنا يبقى نبدأ
من بكرة , على طول
"سامح" :- نروح بالليل ؟
" صادق" :- لا .. بالنهار .. ..
ندخل ومعانا هدايا وتبرعات زي ناس كتير , بيروحوا يمثلوا انهم بيعطفوا على الناس
العواجيز اللي في الدار , ومن غير ما حد يشك فينا , انت يا "سامح" تاخد
أمك وتخرجها , واحنا ها نغطي ضهرك , يعني ها نشغل المشرفين اللي ها يكونوا موجودين
في الوقت ده .
"سامح" :- واشمعنا أنا اللي دايما
ً تحطوني في وش المدفع ؟ ليه ما يبقاش انت ولا "صلاح" !
"صادق" :- عشان انت الوحيد اللي ها
تسمع كلامه , وها ترضى تخرج معاه , إنما لو أنا ولا "صلاح" مش بعيد تصرخ
وتقول اننا اللي رميناها على البحر , انت ناسي ولا إيه ؟
"سامح" :- اتفقنا .. .. بكرة الضهر
نكون هناك
انصرف الشياطين الثلاثة , وهم لا يعلمون أنه في نفس الوقت الذي سيذهبون فيه
إلى الدار لاختطاف أمهم سيكون أبوهم هو أيضا ً هناك , ليس هذا فحسب لقد أعد ّ
القدَرُ لهم جميعا ً مفاجأة ً عجيبة لم يتوقعها أحد ٌ منهم .
5
في
صباح اليوم التالي , ركب "محمد شلبي" سيارته , ومعه عم
"مسعود" , كانا في طريقهما إلى دار رعاية المسنين في الاسكندرية ,
وعندما وصلا إلى الدار , وأظهر "محمد شلبي" الأوراق الخاصة بزوجة عم
"مسعود" والتي تبين هويّتها الحقيقية , فوجئ عم "مسعود" كما
فوجئ "محمد شلبي" هو الآخر بمديرة الدار تقول لهما :
- الأوراق كلها سليمة , لكن الحاجة
"هنيّة" خرجت فعلا ً من الدار !
صرخ عم "مسعود" صرخة ً مدوّية :
- ازاي ؟؟!!
وهبّ واقفا ًوهو لا يُصدّق ما سمعه , إنه لم
ينم ليلته , لقد ظلّ ساهرا ً ينتظر اللحظة التي سيرى فيها زوجته ,وفرحته بلقائها
تكبر وتكبر , لكنّ فرحته تلك لم تكتمل ,كان على بُعْد خطوات ٍ منها , والآن ربما
لا يلقاها أبدا ً , ومن شِدّة ما لاقاه من أولاده , ظن أن المرأة تكذب عليه , ولما
لا ؟ ربّما دفع لها أولاده بعض المال , لتكذب عليه , أحسّ "محمد شلبي"
بما يختلج في صدر العجوز , فسأل مديرة الدار ,قائلا ً :- خرجت مع مين .. .. مين
اللي خرّجها ؟!
اندفع َ عم "مسعود" قائلا ً :- أكيد "صلاح" .. .. ولا
"صادق" .. .. ولا "سامح" .. .. مش بعيد يكونوا همه التلاته ..
.. همه مش عايزين اني ألاقيها .. .. عاوزين إنّي أفتكر انها ماتت !!
" مديرة الدار " - خرجت مع بناتها
.. .. بمجرد ما شافتهم خدتهم في حضنها، وفعلا صدق اللي قال ( البنت سر أمها ) هى
من يوم ما دخلت الدار ما كلمتش أي حد لدرجة إننا افتكرناها فاقدة الذاكرة، لكن
لجظة ما شافت بناتها الاتنين؛ كأن روحها ردت فيها، وحكت لهم كل حاجة بالتفصيل،
ولما طلبوا إنها ترجع معاهم، وافقت على طول.
" محمد شلبي " - قالت إيه بالضبط ؟
" عم مسعود " - قالت مين اللي رماها ؟
" مديرة الدار " - قالت كل حاجة يا
حاج مسعود، وقعدت تبكي، وتطلب منهم يسامحوها علشان انت وهى حرمتوهم من حقهم في
الميراث .. .. بقى معقول يا راجل يا طيب تحرم بناتك وتظلمهم، وتدي حقهم لولادك
الصبيان .. .. ليه ؟!
" عم مسعود " - العند يورَّث
الكفر، والدَّي على الودان أمرّ من السحر، ربنا يكفيكي شر زوجة الابن لما تكون
شيطانة تفضل تبخ سمها في ودان ابنك لما تقسِّيه وتعصِّيه عليكي، وتكرهه فيكي .. ..
" محمد شلبي " - الصفحة دي لازم
نطويها يا عم مسعود .. .. كل ابن آدم خطاء ومفيش حد معصوم من الغلط المهم إنك
اطمنت على مراتك وعرفت إنها في مكان آمن ودلوقتي تحب تروح تشوفها عم مسعود - نروح
لها فين.. ؟ محمد شلبي - عند بناتك .. .. ( وهو يوجه كلامه لمديرة الدار ) مش
حضرتك بتقولي روَّحت مع بناتها ؟
" مديرة الدار " - أيوه .. وكتبوا
تعهد برعايتها ، ومن غير أي تعهد كان واضح عليهم إنهم هيشتالوها في عينيهم.
" محمد شلبي " - بينا يا عم مسعود
.. .. والا نسيت عناوين بناتك؟!
" عم مسعود " - والله يا ابني.. ..
أنا مكسوف من نفسي قوى..
" محمد شلبي " - مش فاهم !!
" عم مسعود " - أنا بقالي سنين طويلة مقاطع البنات ، ومعرفش
دلوقتي عنوان أي واحدة فيهم ، كل واحدة ، جوزها بنى بيت واتنقلوا من زمان..
" محمد شلبي " - يااااه.. ياااه يا عم
مسعود ! معقول.. ده انت راجل طيب.. ازاي قلبك يبقى قاسي قوي كده!!
" مديرة الدار " - عنوان كل واحدة من بناتك الاتنين موجود.. ..ما
كانش ينفع نسمح بخروج الحاجة "هنية " معاهم غير لما نتأكد من إنها
هيتوفر لها كل العناية والاهتمام والرعاية اللازمة، وأكدت عليهم إن مندوبة من
الدار هتقوم بزيارتهم كل فترة للاطمئنان على حالة الحاجة هنية .
أخذ " محمد شلبي " عنوان كل واحدة من بنات عم " مسعود
" ثم اصطحبه معه، وخرجا من مكتب المديرة وأثناء سيرهما في حديقة الدار، ارتمى
الرجل المسن الهرم على أحد المقاعد فجلس "محمد شلبي" بجانبه؛ لاحظ أنه
مغموم جدا فشعر بالدهشة لأنه كان يتوقع منه أن يكون في غاية السعادة فقد أصبح
قريبا جدا من تحقيق أمله في العثور على زوجته، فما هى إلا ساعات قليلة ويلتقي بها
من جديد من بعد سنوات الضياع، لا سيما أنه كان قد فقد الأمل في العثور عليها بعدما
أخبره أولاده بأنها ماتت، فلماذا إذن كل هذا الحزن المرسوم على وجهه ؟!
فقال له وهو يحاول أن يسري عنه، ويخفف عنه حزنه :
" محمد شلبي " -خلاص يا عم مسعود كلها كام ساعة ويتلم الشمل من جديد..انت
ليه مش فرحان ؟! "عم مسعود" -
بصراحة يا ابني .. أنا مش عارف هقابل بناتي ازاي .. .. وازاي أدخل بيت جوز بنتي ،
بعد ما طردته زمان من بيتي .. وبعد ما حرمتهم من حقهم في الميراث!
"محمد شلبي"-ياااه للدرجة دي.. .. هو انت كنت طردت جوز
بنتك ؟!
"عم مسعود" - طردتهم الاتنين.. ..
"محمد شلبي" –أزواج بناتك طردتهم الاتنين .. .. وكل ده كان
علشان إيه ؟!
"عم مسعود" -مشاكل من وراء زوجاتأولادي.. .. فضلوا ورايا أنا ومراتي
لحد ما كرهونا في بناتنا وفي أزواجهم ، وبعد كده كرهونا في أولادنا، أولادي بختهم
وحش قوي كل واحد منهم اتجوز عقربة قرصتها والقبر
"محمد شلبي" - بقول لك إيه يا راجل يا طيب، بناتك مع إني ما
شفتهمش بس واضح إنهم الاتنين أجدع من ميت راجل ، بدليل إنهم قدروا يوصلوا لأمهم،
وواضح إنهم حنينين قوي والقلب الحنين يا عم مسعود ما يساعش مع الحنية أي كره، ولا
يعرف يشتال من حد خصوصا لو كان الحد ده أبوهم؛ قوم يالله تعالى معايا نروح لهم، والا
ست الكل ما وحشتكش .. ..
استطاع "محمد شلبي" أن يقنعه بأن يقوم من مكانهولكنه بمجرد أن
قام من مكانه، وسار معه نحو البوابة فوجئ بثلاثة رجال يدخلون ورغم حرص كل واحد
منهم على إخفاء ملامح وجهه خلف نظارة سوداء كبيرة أو غطاء للرأس يخفي نصف الوجه
تقريبا إلا أنه عرفهم، إنهم أولاده الثلاثة وعندما وصلوا إلىالمكان الذي يقف فيه
وأصبحوا أمامه؛ تسمروا في مكانهم وألجمتهم المفاجأة، فلم يتوقعوا قط رؤية أبيهم في
هذا المكان، ورغم الارتباك والقشعريرة التي هزت كيانهم حاول "صادق" أن
يخفي وجهه بيديه وسار خطوات نحو الداخل وتبعه أخواه وفجأة تحرك الجبل انفجر
البركان؛ وبكل ما تبقى لديه من قوة، صاح مناديا عليهم :
- صادق! .. سامح! .. صلاح!
وفوجئ "محمد شلبي" بهذا الصوت الصلب الجهوري فلم يصدق أذنيه،
ولم يصدق أنه صوت "عم مسعود" ذلك الشيخ الهرم الضعيف الطيب الوديع الذي
يقف بجانبه !
عاد الأولاد الثلاثة واقتربوا من أبيهم شيئا فشيئا بحذر وتوجس، تمالك صلاح نفسه وصاح في وجه أبيه - بابا! .. .. انت بتعمل إيه هنا .. .. إزاي
جيت هنا ؟
"عم مسعود" :- أنا جيت هنا أرجع أمكم اللي هانت عليكم، ورمتوها
في الشارع من أربع سنين زي ما رمتوني في تربة متر في متر!
لم يستطع "صلاح" أن ينطق بكلمة واحدة ولا استطاع أي من أخويه أن
يتفوها بكلمة، فبماذا سيبررون فعلتهم الشنيعة، فجأة تحول الشيخ البائس المسكين إلى
وحش قوي وبقوة غريبة صفع ابنه "صلاح " صفعة سمع صوتها كل من كان في
حديقة الدار، ثم انهال على أولاده الثلاثة ضربا، وكأنه شاب في مقتبل العمر فوجئ
الجميع بما يحدث وبمجرد أن تبخر عرق المفاجأة تدخل "محمد شلبي" واثنان
من مشرفي الدار لتهدئة الشيخ الثائر الذي لم يهدأ إلا عندما رأى خيطا من الدماء
يسيل من أنف ابنه "صلاح"فارتمى على أقرب مقعد، وبدأ يستجمع نفسه، ويحاول
أن يفيق من نوبة الغضب! إنه لم يغضب هكذا منذ عقود من السنين، كان غاضبا جدا لدرجة
أن من حوله حتى أبناؤه - وهم يرونه على هذه الحالة واضعا يده على صدره الذي كان
يعلو ويهبط بسرعة كبيرة –ظنوا أنه سيفارق الحياة لكنهم جميعا أصابهم الذهول عندما
شاهدوه بعد دقائق يقوم من على المقعد منتصب القامة، ويفرد ظهره الذي ظل منحنيا
ومقوسا لسنوات طويلة!ولم يكد يراه أولاده الثلاثة على هذه الحالة حتى فروا مسرعين
إلى خارج الدار، خوفا من أن يعود لضربهم من جديد .
"محمد شلبي":-
انت بخير يا عم مسعود ؟!
"عم مسعود":- بخير .. .. أنا حاسس زي ما أكون رجعت عشرين سنة
شباب( ضحك رغم فداحة المأساة التي يعيشها وقال وهو يأخذ نفسا عميقا ) تصدق.. ..
لما ضربت أولادي حسيت براحة كبيرة .. .. يظهر إني محتاج كل فترة أضربهم علشان صحتي
تتحسن .. .. هاهاهاهاها
"محمد شلبي":- لكن أولادك كانوا جايين عايزين إيه.. .. يكون
ضميرهم صحي وكانوا جايين يستسمحوا أمهم ويطلبوا عفوها ورضاها .. ..
"عم مسعود" :-لو كان الكلام ده صحيح كانوا أول ما شافوني عملوا
زي ما قلت واستسمحوا أبوهم ، .. لا .. لا .. دول كانوا جايين يعملوا مصيبة جديدة
.. .. الحمد لله إن بناتي طلع عندهم أصل وحنوا على أمهم في الوقت المناسب وخدوها
عندهم .
اتكأ "عم مسعود" بيده
على كتف "محمد شلبي" وهما يخرجان كان من الواضح أن التعب قد بدأ يحل
عليه حتى أنه بدأ يشعر بآلام في ذراعيه ورجليه لكنه أخذ يتحامل على نفسه، وقرر أن
يذهب مع "محمد شلبي-"هذا الابن الصالح الذي تمنى لو كان من صلبه -
ليرى زوجته ويرى ابنتيه اللتين قاطعهما منذ سنوات .
مرت الأيام والأسابيع، وبعد ستة أشهر كان "عم مسعود" يسكن في
شقة فاخرة في دمياط الجديدة، وكانت الشقة تطل على البحر مباشرة، وفي عصر كل يوم
يجلس أمام البحر هو وزوجته الحاجة "هنية" لقد أصبح "مسعود الخياط"
من أشهر مؤلفي الأغاني في مصر، وأصبح اسم الشهرة له "سعيد الخياط" لقد
أصر "محمد شلبي" على تغيير الاسم من "مسعود" إلى "سعيد"
ليناسب الوسط الفني وكان "عم مسعود" يقول له مازحا :
-طيب نغير الاسم كله ويبقى "سعيد الترزي"..
.. إيه رأيك ؟!
ابنتاه عنده كل يوم تقريبا تقضيان هما وأولادهما معظم الوقت معهما، وعادت
المياه إلى مجاريها بين "عم مسعود" وأزواج بناته، وفي كل أسبوع تباع
أغنية أو اثنتين فيزداد الرجل ثراء وشهرة وكذلك "محمد شلبي" تحسنت حياته
بوجود عم مسعود الذي أصبح يعتبره مثل والده أما الأولاد الثلاثة فقد دارت بهم
الدنيا في وقت قياسي ففي أقل من سنة دخل صلاح السجن بعد أن طلق زوجته التي كان قد
كتب كل شيء باسمها البيت والورشة وحتى ودائع الأولاد في البنوك كانت كل الأوراق في
حوزتها لقد خسر كل شيء وأصبح مدينا بمبالغ كبيرة لا يستطيع سدادها؛ لذلك كان مصيره
السجن، أما صادق فقد خسر كل شيء في لعب القمار خسر الأموال وخسر البيتالذي منحه له
أبوه بيعا وشراء، بل ولجأ للاستدانة حتى غرق هو الآخر في الديون وأصبحت امرأته لا
تناديه إلا بالشحاذ، وبالنسبة للثالث سامح فقد أقنعه أقارب امرأته بأخذ قرض كبير
بضمان البيت - الذي كان أبوه قد كتبه باسمه - ليعمل به مشروعا كبيرا أخبروه أنه
مضمون الأرباح لكنه بدلا من أن يجني المكاسب خسر كل شيء وحجز البنك على شقته وعلى
المشروع وأصبح هو أيضا مفلسا واضطر للسفر بعيدا عن زوجته وأولاده حتى لا يدخل
السجن!
ورغم أن الحياة فتحت ذراعيها، وفتحت أبواب
الثراء والسعادة على مصراعيها، وكأنها تريد تعويض كل من "عم مسعود" و
زوجته الحاجة "هنية" عن كل سنوات العذاب، إلا أنهما لم يستطيعا نسيان
أولادهما، فكانا يتابعان أخبارهم في حزن وأسى، ولم يكن ينغص عليهما حياتهما إلا
جفاء أولادهما الذكور، وما يصل إليهما من أخبار مؤسفة عنهم .
وفي يوم من الأيام، وكان الجميع يجلسون في صالة شقة "عم مسعود"
وكانت كبيرة وواسعة، لدرجة أنه قال موجها كلامه إلى "محمد شلبي"
: - تصدَّق يا ابني يا "محمد" إن
هذه الصالة أكبر من قاعة نادي الأدب الموجودة في قصر الثقافة !
رد عليه "محمد شلبي" مازحا : - يا
"عم مسعود" أنت دلوقتي تقدر تشتري قصر الثقافة نفسه، بس لو دخلت قصور
الثقافة ضمن خطة الخصخصة !
تدخّلت الحاجة"هنية" قائلة :- قصر
إيه يا مسعود، أولادك أحق بأي فلوس، الأولاد كل يوم حالهم في النازل !
"عم مسعود" :- نسيتي يا
"هنية" اللي عملوه ؟!
"الحاجة هنية" :- يا
"مسعود" دول أولادنا، والظفر ما يطلعش من اللحم، دول حتة مننا، ومهما
يغلطوا ما لهمش حد بعد ربنا غيرنا .. ..
"عم مسعود" :- يا هنية انتي بتنسي
بسرعة .. .. بصِّي وراكي يمكن الصورة دي تفكَّرك !
نظر الجميع إلى حيث أشار، فقد كانت اللوحة
المعلقة على الحائط هى نفسها اللوحة التي كانت في المعرض، لوحة ( العجوز والبحر )
ومعلق بجانبها ذلك التحقيق الصحفي مغلفا بحافظة من البلاستيك الشفاف، لم تنظر
الحاجة هنية خلفها، فقد كانت تعرف ما يقصده زوجها، وكانت تحفظ تفاصيل اللوحة، فقد
عاشت أحداثها بالفعل، وعانت كما لم يعاني أحد من قبل، ورغم ذلك قالت له :- يا
"مسعود" أنا عشت سنين في الخلا، في الضلمة، وسط الديابة والكلاب
المسعورة، كنت باكل من الزبالة، والعقارب والتعابين بتعدِّي من فوقي وانا نايمة،
ولما كان بني آدم بيعدِّي صدفة من المكان ويشوفني كان بيخاف من شكلي ويفتكرني جنية
أو عفريتة من العفاريت، أنا شفت عذاب عمر ما حد شافه، بس برده دول ولادي، قلبي
بيتقطع عشانهم، صحيح غلطوا في حقي وانا مسامحاهم، علشان خاطري لو تقدر تقف جنبهم،
ما تتأخرش عنهم، دول ولادك برده !
كل من في الصالة كان في حالة دهشة، فكيف
تسامحهم بعد كل ما جرى لها على أيديهم! لكنهم كانوا يعرفون أن قلب الأم لا يتحمَّل
أي شيء على الأبناء حتى ولو كانوا جاحدين، الابنة الكبرى قالت :- والله يا ماما
عندك حق، هو الدم عمره يبقى مية ؟!
وأكدت الابنة الصغرى كلامها قائلة :- يمكن يا
بابا ربنا يهديهم، ما هو كل المصايب اللي حصلت كانت من ورا زوجاتهم، يعني إخواتنا
ممكن يكونوا مظلومين همه كمان، كانوا واقعين تحت ضغط وألاعيب زوجاتهم .
زوج الابنة الكبرى هو الآخر قال :- ولا تنسوا
يا جماعة إن دخول أي واحد منهم السجن ده شيء مش مقبول، دول أعمام أولادي، معقول
نتركهم يدخلوا السجن !
وأيِّده زوج الابنة الصغرى، وهو يقول :- أكيد
اللي حصل كان درس قاسي لهم، وكفاية عليهم كده، دول فلِّسوا وادينوا، مش معقول
نتخلَّى عنهم ونتركهم يدخلوا السجن، أنا عن عن نفسي بعد إذنك يا "عم
مسعود" هتكفِّل بسداد جزء من ديونهم .
ابتسم "محمد شلبي" وقال :- خلاص يا
"عم مسعود" عفا الله عما سلف، وأكيد وقوفك جنبهم هيفوقهم، ويخليهم
يندموا على اللي عملوه .
رغم كل ما سمعه، إلا أنه كان متأكدا من أن
أولاده لن يتغيَّروا مهما حدث! إنه يحفظ كل واحد فيهم عن ظهر قلب، قرر أن يوافق
زوجته وبناته وأزواجهن، وأن يستجيب لهم ولصاحب القلب الطيب "محمد شلبي"
بأن يمد يد العون لأولاده، ويسدد عنهم كل الديون، لكنه لن يكرر غلطته الأولى، لن
يكرر غلطة عمره، فيظلمهم ويعطيهم أموالا تفتنهم وتكون وبالا عليهم، كذلك لن يحرم بناته،
سيترك كل شيء ليقرره القدر، ويحكم فيه الشرع، فقط قرر أن يوصي بأن يخصص ثلث ثروته
لشراء أرض كبيرة تقام عليها دار رعاية للمسنين، وعندما سألته زوجته قائلة :-
إشمعنى دار للمسنين.. ..كان ممكن جامع أو دار أيتام أو مدرسة ؟
رد عليها قائلا :- يا "هنية" اللي
عايز يصلِّي ممكن يصلِّي في أي مكان، في بيت؛ في شارع؛ في محل؛ في ورشة، واليتيم
يقدر يشق طريقه في أي مكان مهما كانت قسوة الدنيا، وقسوة الناس، واللي عايز يتعلم
مش هيغلَب، ممكن يتعلِّم حتى من غير ما يدخل مدرسة، إنما الناس العواجيز اللي
زيِّ، وخصوصااللي يغلط غلطة عمره، ويكتب كل شيء باسم أولاده، هايروح فين ؟! وهو لا
يقدر يشتغل، ولا يقدر يتصرَّف، ها يعيش إزاي ؟!
الحاجة "هنية" :- تقصد العواجيز
اللي زيِّ أنا .. ..
" عم مسعود" :- لا .. .. انتي مش
عجوزة يا هنية، ومهما تكبري ها تفضلي في عينيا، البدر اللي بينوَّر لياليا، يا
أحلى وأغلى حاجة في الدنيا ديَّا .
تمت
الخميس
20 / 8 / 2005 م
المؤلف
/ متولي محمد متولي بصل
من
أعماله :
روايات:
- الربيع الذي
لا يأتي
-
شعبان في خبر كان
- العجوز والبحر
- مكالمة بعد
منتصف الليل
مجموعات
قصصية:
- الديك ذو
العرف الأبيض
-
الحب في الوقت الضائع
- الرجل الذي
سرق دبا
-
مأساة حصان.
ديوان
شعر فصحى:
- من يهتف في
الميدان
-
بحار بلا مرسى
- قبل أن تُرفع
الجلسة
- موعد مع الأمل
ديوان
شعر عامية:
-
أغاني (مجموعة
أغنيات عامية )
- نفسي اشوف
النيل بيضحك
-
ليه يا بلد
- العمر لحظة
حب.
- يوميات
رمضانية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق