بنية النص وأطرافه الثلاثة
قراءة نقدية بقلم / محمد البنا لنص * طرف ثالث * للأديب المصري متولي بصل؛ الحائز على المركز الثالث في مسابقة القصة القصيرة بالاتحاد الدولي للمثقفين العرب ورئيس مجلس إداراته الشيخة نوال الحمود الصباح، و دكتور مهندس خالد النابلسي الراعي الرسمي للمسابقة؛ مدير عام الاتحاد أ.مجدي شعيشع؛ رئيس لجنة التحكيم أ. كنانة عيسى؛ منسق عام أ. أسيمة إبراهيم مدير المسابقة محمد البنا
القصة
طرف
ثالث
لم
أنم، والعجيب أن كلب الجيران لم ينم هو الآخر! ظل طول الليل ينبح؛ لكنه لم يكن
ينبح نباحاً عادياً؛ بل كان يعوي كما تعوي الذئاب ! ربما رأى ملك الموت، وهو يدخل
شقتي في تلك الليلة.
حتى
الآن لا أصدق ما حدث؛ ليتني لم أسمع كلامها، ليتني لم أطاوعها! لقد قضيت الليل كله
أبكي حتى نفدت دموعي، وأصرخ من أعماقي حتى بح صوتي المكتوم في ضلوعي، وأنا أحاول
أن أسعفها؛ أن أعيدها إلى الحياة؛ لكن كان الأمر قد وقع ! ربما لو كنت اتصلت
بالإسعاف؛ لكتبت لها النجاة، كانت تحتاج إلى من يسعفها؛ ولكنني كنت خائفاً؛ هي
نفسها قبل أن تفقد الوعي رفضت اللجوء للإسعاف أو الذهاب إلى المستشفى!
مع
ذلك أنا متأكد من أنها ماتت، صحيح أنني غير مثقف كما كانت تقول، ولم أحصل على
شهادة عليا كما كانت تقول! لكنني تمرَّست في مدرسة الحياة، ومررت بأشياء وتجارب لا
يعلم عنها أهل المدارس شيئا، رأيت من قبل رجلا يموت في سيارته بعدما نزل ليشتري
علبة سجائر! وبمجرد أن عاد إلى السيارة، وفتح العلبة، ووضع السيجارة في فمه،
وأشعلها تجمد في مكانه ! كان قد أوصد الباب؛ فظللنا وقتاً نحاول فتح الباب لنخرج جثته،
كانت عيناه مفتوحتان وجاحظتان وكأنه رأى ما لم نره !
مرة
أخرى؛ وفي الورشة التي كنت أعمل فيها، المعلم وهو جالس على كرسيه المصنوع من جريد
النخيل، وقعت النرجيلة من يده فجأة، وعندما ذهب زميلي ليساعده وجده جامدا في مكانه
لا يتحرك، وعيناه مفتوحتان لا ترمشان! فعلنا الكثير لدرجة أننا لطمناه أكثر من مرة
على وجهه، ومع ذلك لم يتحرك، لو كان حيا لعلَّقنا جميعاً من أرجلنا كالذبائح !
لقد
ماتت زوجتي الحبيبة، أنا متأكد من أنها ماتت؛ والذي يشهد على كلامي عواء كلب
الجيران، لم يكن نباحاً هذا الذي سمعته! إنه لم ينبح بهذه الطريقة قط منذ أقمنا في
هذه الشقة المنحوسة !
ماذا
سأقول، إنّ أحداً لن يصدقني؛ سيظن الجميع أنني قتلتها، إنها فرصتهم التي انتظروها
طويلاً؛ جاءتهم على طبق من ذهب !
طول
الليل وأنا أدور حول نفسي حتى تعبت، ومن شدة التعب نمت بجانب جثتها ! لقد تزوجتها
عن حب، مع أنني كنت أعرف أن زيجتنا غير متكافئة؛ فأنا مجرد عامل حرفي بسيط، أكاد
أعرف القراءة والكتابة، بينما هي خريجة جامعية؛ لديها شهادة عليا؛ و جميلة؛ وموظفة
تنفق على البيت أقصد تساعدني .. لا .. لا .. الحقيقة منذ غلق الورشة؛ أصبحت هي التي تنفق على البيت؛ تنفق
علي َّ كما يقولون .. اللعنة عليهم جميعاـ؛ إنهم يحسدونني عليها، إنهم شياطين
يسعون إلى خراب البيوت !
رغم
كل ذلك، ورغم كل المشاكل التي كانت تندلع بيننا، فقد كانت تحبني، وكنت أهيم بها
حبا، على الرغم من دخول طرف ثالث بيننا بسببه كدت أطلقها أكثر من مرة، كانت شغوفة
به أكثر من شغفها بي؛ تجلس معه أكثر من جلوسها معي، ترافقه في كل مكان، تستشيره في
كل صغيرة وكبيرة، وعندما أعترض، تتحجج بقلة تعليمي! بدأت أتقبل وجوده بيننا رغم
شعوري بأن قرنين كبيرين ينبتان في جانبي رأسي، وكنت كلما نظرت في المرآة أنظر خلسة
خشية أن أراهما، وبدأت أعتاد الأمر بعدما اتضح لي أن الجميع مغرمين به أيضا إنه
المأسوف على شبابه المدعو جوجل !
في
تلك الليلة المشؤومة، فوجئت بها تتلوى وتصرخ، إنها مريضة؛ فاقترحت عليها أن أصحبها
إلى المستشفى، وهممت بطلب الإسعاف؛ لكنها رفضت وبشدة، وشرحت لي أن المستشفيات كلها
موبوءة، ووجدتها تكتب ما تحس به، وترسله إلى جوجل وما أسرع ما جاء رده ! فبعد أن
قرأ الأعراض التي أرسلتها؛ كتب لها قائمة متكاملة بالأدوية اللازمة ومن ضمنها
حقنة، و لأن كلام السيد جوجل أوامر فقد أرسلتني لأحضر لها الدواء من الصيدلية
القريبة، ثم غرست سن الحقنة في ذراعها، و يا ليتها لم تفعل ! فما هي إلا دقائق حتى
رأيتها تتشنج أمام عيني ثم رأيت حدقتا عينيها تدوران، قبل أن تجمدا، وتتوقفا إلى
الأبد، حاولت إفاقتها بكل الطرق، لكنها كانت قد فارقت الحياة .. .. اللعنة على
جوجل، إن مصيبتي كبيرة، وليست في موت زوجتي التي أحبها فقط، فالمصيبة الأكبر أنهم
سيتهمونني بقتلها! بمن سأستشهد ؟! هل أطلب شهادة كلب الجيران الذي ظل يعوي طيلة
الليل خوفاً من ملك الموت، أم أطلب شهادة جوجل الذي كان يسعى لتفريقنا دائماً حتى
نجح، وحرمني منها ؟ !
انتهى
الليل ، ليبدأ ليل حياتي الأبدي ؛ لقد مر أكثر من سنة؛ سنة سوداء محت كل عمري الذي
عشته من قبل، حتى أنني لم أعد أذكر لحظة سعادة واحدة عشتها، وأنا أنزف الساعات
المتبقية لي خلف القضبان! إنهم يقولون إن القرائن كلّها ضدّي؛ كل الأدلة والبراهين
تقول أنني قتلت زوجتي الحبيبة ! ولذلك حكموا بالإعدام لتوفر العمد مع سبق الإصرار،
كلمات منمقة لا أدرك لها معنى ! لكن الذي يشغلني الآن هو متى سينفذون الحكم ! ربما
ينفذونه الليلة؛ فها هو صوت عواء كلب الجيران يتردد في أذني من جديد !
متولي بصل
مصر
***********
القراءة
النقدية
***********
* البراعة السردية
سألت
نفسي بعد قراءتي لهذا النص؛ لماذا فاز نصٌ كهذا بمركز متقدم في منافسة شرسة مع
نصوص أخرى تميزت عنه بالحداثة وما بعد الحداثة، وتميزت عنه بطزاجة الفكرة والحبكة،
رغم طزاجة فكرته أيضًا، فلا خلاف في ذلك، فتوظيف الطرف الثالث هنا كان توظيفيًا
متقنًا وبذكاء شديد، كل ما سبق لم أر فيه داعمًا أساسيًا لنتميز النص، رغم كونه-
التوظيف- كان من الدعائم الفعلية له...لذا كان علي كناقد أن أبحث عن مكمن البراعة
الذي شكل رافعة أساسية لهذا التفوق المستحق، ووجدته...نعم وجدته يطل علي بابتسامته
المرحة" هذا أنا..هل تراني ؟" رأيته والدموع تسح من عينيه مدادًا على
الورق، دموعٌ حاول أن يخفيها وراء ابتسامته، وآهة قهرٍ جاهد أن يكتمها صدره، لولا
عواء كلب الجيران، ذلك الكلب الذي رافقه منذ البداية ومن ثم اختتم به متن قصته،
حتى أنني رأيت فيه طرفًا ثانيًا، بينما جاءت الزوجة والمعلم وقائد السيارة شخوصًا
ثانوية لتأسيس البنية السردية، إن التدفق السردي المفعم برشاقة تنقلات مذهلة
تقنيًا؛ توظيفًا والمقصود بهذا التوظيف هنا زمكانية الأحداث الثلاثة المذكورة في
المتن.
* الفكرة
فكرة
طازجة إذ ارتفعت بالنص من المستوى الواقعي إلى مستوى الواقعية الحديثة، علاوة على
مارة توظيف الميثولوجيا؛ التشاؤم من نباح الكلاب في الليل، على أساس موروث مجتمعي
أنه نذير موت، لرؤية الكلب ملك الموت يقترب من المكان.
* المعالجة السردية
- اتكأ الكاتب على التعمية المقبولة لماهية الطرف الثالث، الذي
اختاره عنوانًا للنص، ثم بدأ في الكشف عنه مباشرة، وسارع إلى الانتقال لتقنية
التداعي الحر - أحد تقنيات تيار الوعي السردي- كمسوغٍ لتبرير تيقنه من موت زوجته
المفاجئ، إذ استدل بحادثتين كلاهما انتهت بما يسمى موت الفجأة.
- توظيف نباح الكلب ليلًا في بداية النص ونهايته في إشارة
سيميائية لدنو موعد إعدامه.
* الحبكة
- الحبكة - في رأيي- عابها عوار في التنسيب الزمني للمسرود، إذ
استهل النص بالزمن الحاضر (لم أنم، والعجيب أن كلب الجيران لم ينم هو الآخر! ظل
طول الليل ينبح؛ لكنه لم يكن ينبح نباحاً عادياً؛ بل كان يعوي كما تعوي الذئاب !
ربما رأى ملك الموت، وهو يدخل شقتي في تلك الليلة.)..لم أنم/ لم ينم/ ظل طول الليل
ينبح، ثم أورد في نهاية الفقرة ( يدخل شقتي تلك الليلة) وهى جملة شبه منقذة، ولكني
لم أجدها كافية، والأصوب لتصحيح الزمن السردي - من وجهة نظري أن يقول ( لم أنم
ليلتها ).
* اللغة والأسلوب
جاءت
موفقة ومناسبة تماما لفكرة النص ومعبرة بطلاقة عما يُراد إيصاله للقارئ، وبأسلوب
رشيق متدفق لا يخلو من سخرية ذاتية وضحكات تغلفها الدموع.
* الخطاب السردي
- عدم التكافؤ الاجتماعي عادة ما يكون عائقًا قويًا أمام
استمرارية زيجة من هذا النوع
- خطر التقوقع في كهف الشاشة ذات العين الواحدة، وما سببته
وتسببه من تفكك افراد أسرة تحت سقف بيت واحد، ولكنهم كأنهم في جزر منعزلة، بل هم
في جزر منعزلة حقيقة لا مجازا!
* أخيرًا
تهنئة
من القلب لك أ. متولي بصل، وتهنئة خاصة لنصك الجميل، الذي أعده خطوة على الطريق
الصحيح، استطعت فيها أن تتحكم بمهارة في خيوط نصك وتحركها ببراعة مخرجٍ ماهر.
محمد البنا / القاهرة في 15 مارس 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق