Translate

جزء من رواية ( دموع على رصيف الرحيل ) للروائي العراقي : عبدالزهرة عمارة


جزء من رواية

دموع على رصيف الرحيل


 للروائي العراقي 

 عبدالزهرة عمارة

(1)

وقف حارث على عتبة المصنع، يتأمل البوابة الحديدية الصدئة كأنها فوهة الزمن تبتلعه إلى مستقبل لم يكن يحلم به. كان يضع شهادته في جيبه الداخلي، مطويةً كجناح مكسور، يخشى أن يخرجها فيرى فيها خيبته متجسدةً على ورقٍ لا ينفعه.

تأمل أصابعه التي كانت تحلم يوماً بأن تعانق المحركات المعقدة، وتضع بصمتها في عالم الآلات المتطورة، لكنها الآن تتلطخ بشحومٍ قديمة، وتدخل بين أسنان التروس الخشنة، كما لو أنها تواسيها على دورانها الذي لا يتوقف.

مرّ بجانب العمال، أحدهم رفع رأسه من تحت شاحنةٍ قديمة، كان وجهه ملطخاً بالزيت، لكنه ابتسم:

— -أهلاً بك في طاحونة الأيام، هنا لا فرق بين الحالم واليائس، الجميع تحت رحمة الصدأ!-

ابتسم حارث ابتسامةً باهتةً، كأنه يرفض تصديق أن قدميه قد وطئتا هذا المكان، لكنه تابع السير. لم يكن هذا المصنع سوى سجنٍ بارد، قضبانه ليست من الحديد، بل من خيبة الأحلام المتساقطة، كان الهواء هنا يحمل رائحة الحديد الساخن، ورائحة العرق الممتزج بالكفاح المرير.

اقترب منه المشرف، رجل ستينيٌّ تكوّرت السنون على وجهه كأخاديد الأرض العطشى، حدّق في حارث بعينين تحترف اختبار القادمين الجدد:

— -أنتَ جديد؟ ماذا كنت تفعل قبل أن تأتي إلى هنا؟-

رفع حارث رأسه، كأنه يبحث عن إجابةٍ تليق بماضيه، لكنه لم يجد سوى كلماتٍ متكسرة:

— -كنت أدرس… كنت أطمح…-

قهقه المشرف بخشونة:

— -وهل الطموح يُطعِم؟ هنا، لن تسأل التروس عن شهادتك، بل عن قوة يدك، فهل أنت مستعد؟-

هزّ حارث رأسه بصمت، ثم مدّ يده إلى صندوق الأدوات، شعر بثقلها وكأنها تحمل كل الأبواب التي أُغلقت في وجهه. تنهد بعمق، ثم غاص في جوف الآلة، يعبث بمساميرها كأنه يبحث بينها عن شيءٍ سُرق منه.

كان الميكانيكُ علمه، حلمه، شغفه… لكنه هنا صار مجرد خبزٍ يوميٍّ يقايضه بعرقه، وعيناه كلما التقطتا انعكاس وجهه على سطحٍ معدنيٍّ لامع، رأتا فيه ظلّ فتىً كان يحلم بأن يكون مهندساً… لا عاملاً.

شعر بأن قلبه ينبض بقوة، وتدفق في عروقه الأمل كما يتدفق الماء في نهرٍ متسارع بعد المطر. كان يعلم أن هذه الوظيفة ليست سوى بداية، لكن رغم بساطتها في الظاهر، كانت بالنسبة له جسراً نحو تحقيق حلمه.

وكانت لياليه في المصنع مليئة بالكفاح، حيث كان يُعامل الماكينات كما يعامل الفلاح الأرض، يسقيها بالجهد ويُعطيها من وقته وعرقه. كان الصوت المزعج للآلات في المصنع يتداخل مع أفكاره، لكنه كان يتحمل، لأن خلف هذا الصوت كانت هناك وعودٌ تتحقق.

وفي كل مرة كان يعود فيها إلى المنزل، كانت وجهه مشرقًا رغم التعب، وعيناه تحملان وعودًا بأن الأيام القادمة ستكون أفضل. في تلك اللحظات، كانت والدته، بعيونها التي ترى ما وراء الكلمات، تدرك أن ابنها بدأ يكتب فصلاً جديدًا من فصول الحياة، فكانت الكلمات التي تخرج من شفتيها لا تحمل سوى دعاءٍ بالصبر والنجاح.

وكان الأب، الذي تعب من العمل في الظل، ينظر إلى حارث بعينين تحملان الكثير من الفخر، لكنهما كانتا تشعان أيضًا بقلقٍ وحبٍ دفين. يقول له في بعض الأحيان، وكأنها وصية عبر الأزمان: -اعمل بأمانة، فالأرض التي تعطيك اليوم ستحصد منها غدًا-.

وهكذا، بدأ حارث رحلته في عالم العمل، متسلحًا بالحلم والعزيمة، مرتقيًا درجات الحياة كما يرتقي الجبل الشامخ، عاقدًا العزم على أن يكون هو الآخر شجرةً قوية، مثمرة في عالمٍ يحتاج إلى الكثير من العطاء.

(2)

مرت سنتان، كانتا كمرور الزهور في فصل الربيع، زاهرةً في أوقاتٍ من الجهد والمثابرة. كانت تلك السنتان أشبه بصفحاتٍ تكتب بعرقِ حارث، يشق بها درب الحياة، يواجه فيها التحديات كما يواجه الفارسُ قسوةَ الرياح في معركةٍ لا نهاية لها. ورغم العناء، كان العرق يتصبب من جبينه كما تتساقط قطراتُ الندى في الصباح الباكر، لكنه في النهاية، كما يتدفق النهر بعد طول عطش، جمع مالًا يكفي لأن يخطو خطوةً جديدة نحو حلمه.

وفي لحظةٍ هادئة، وقف حارث أمام والدته، وكان قلبه يرقص بين حروف الكلمات التي كان يود أن يقولها.

-أمي... أريد أن أستقر، أريد أن أبحث عن شريكة الحياة، عن تلك التي تملأ البيت حبًا، وتشاركني في بناء المستقبل كانت الكلمات تُسقط على قلبه كما يسقط المطر على الأرض الظمأى، فتثمر الأفكار في قلبه ويبدأ في التطلع إلى غدٍ جديد.

أم حارث، كما هو الحال مع أي أم، كانت تحمل بين يديها مزيجًا من الأمل والقلق، وكانت تسير في طريق البحث عن تلك الفتاة التي تصلح أن تكون نصفه الآخر.

 نظرت إلى ابنها بحنانٍ ورغبةٍ في مساعدته، وتلفتت حولها في محيط العائلة والجيران، قلبها ينبض بسرعة كمن يبحث عن لؤلؤةٍ في أعماق البحر.

ثم جاء يومٌ جاء فيه الضوء في صورة فكرة، فوجدت الفتاة التي كانت تشبه الزهور في بستانٍ بعيد. اسمها ماجدة، بنت طيبة وجميلة، تتناثر الجمال في وجهها كما تتناثر الشمس على الندى في الصباح الباكر. كانت من عائلةٍ بسيطة، لكنهم كانوا طيبين كالماء العذب في بئرٍ عميق، وعاشت حياتها بحبٍ ونقاء، ولا يحملون من الدنيا إلا ما يُشبع الروح.

حدثت الأم ابنها عن ماجدة، وكانت عينا حارث تلمعان في لمحةٍ من الأمل. لم يكن المال في كفّه كالثروة التي يتغنى بها الشعراء، لكنه كان يحمل في قلبه حبًا صادقًا، وتطلعًا إلى بناء حياةٍ ليس فيها سوى الأمل والاحترام.

قال حارث:

-أمي، هل تعتقدين أنها ستكون السيدة التي ستشاركنا هذه الحياة؟

أجابته والدته بحكمة:

-ابني، ماجدة ليست كغيرها، فهي فتاة تحمل الطيبة في قلبها، وتعرف كيف تعيش البساطة بحبٍ وعناية. لا تبحث عن الثراء في المال، بل في قلبها، وستجد أن ما تحتاجه هو الشعور بالأمان والطمأنينة.

وفي لقاءٍ عفوي جمع بين حارث وماجدة، كانت الكلمات بينهما كالموجات التي تنكسر على الشاطئ، وكل واحدةٍ تخلق أثرًا في الآخر.

كانت ماجدة تتحدث بصوتٍ هادئ، كأن نغماتها تُسكن البحر في قلب حارث، بينما  هو ينصت بعينين تقدمان له رؤية جديدة للحياة.

قال لها:

-ماجدة، أنا رجل بسيط... ليس لدي الكثير من المال، لكنني أعدك أنني سأعطيك كل ما في قلبي من حب واهتمام.

أجابته وهي تنظر إليه بعينين مليئتين بالأمل:

-أنت لست بحاجة إلى المال لتكون غنيًا، فالغنى الحقيقي هو في الحب والصبر، وإذا كنت تستحقني، فأنا هنا.

كان حديثهما كأغنيةٍ هادئة تتناغم مع الرياح، كل كلمة تنسج خيوط الأمل في قلوبهما، وكل لحظة كانت تُشعل شرارة من التفاهم العميق. وبتلك اللحظات، تأكد حارث أنه قد وجد شريكةً ليست في حاجةٍ للمال، بل للقلب الذي ينبض بالصدق، والصبر الذي يحيي أحلامًا.

وهكذا، بدأت رحلة جديدة لحارث، رحلة الأمل المستمر، حيث وجد في ماجدة كل ما كان يبحث عنه. لم تكن مجرد زوجةٍ، بل كانت صديقته التي تقاسم معه الحياة بكل ما فيها من تحديات وأحلام. ومع كل يومٍ يمر، كان يقين حارث يزداد بأن الحب الحقيقي لا يُقاس بما يملك الإنسان، بل بما يعطيه في قلبه.

(3)

مرت الأشهر الأولى من زواج حارث وماجدة كما تمضي فصول الربيع في بستانٍ غنّي، حيث كانت الحياة بينهما تنمو وتزدهر، مُزدهرة بالحب والحنان. لكن مع مرور الوقت، بدأ يحدث شيءٌ غريب في قلب العلاقة، شيء غير مرئي لكنه ملموس، كما تنبت الأعشاب في الحقول بلا إنذار، شيئًا تسلل من بين أيديهما دون أن يلاحظاه في البداية.

بدأت ماجدة تبتعد شيئًا فشيئًا عن حضن المنزل، وكان حارث يلاحظ أن مكانها في البيت بدأ يصبح أكثر خلوًا، كأنما غادرته ضحكتها التي كانت تملأ المكان. في البداية، كانت تذهب إلى بيت أهلها ليومين فقط، وتعود كما لو أن غيبتها لم تكن، ولكن مع مرور الأيام، أصبحت تلك الزيارات أكثر تكرارًا، وكأنها بدأت تجد في زيارة أهلها ما يعوضها عن الفراغ الذي بدأ يعشش في قلبها.

كلما غابت، كان حارث يشعر بشيءٍ غير مريح يثقل صدره، شيءٌ يشبه رياحًا باردة تعصف بصفحات كتابه، وتفقده تركيزه. لم يكن يعرف ما السبب وراء ابتعادها المفاجئ، أو ما الذي كان يجعل قلبه ينقبض كلما عاد إلى المنزل، ليجد أن البيت خالٍ من دفء ماجدة، وكأنما عاد إلى مكانٍ باردٍ بعد رحلةٍ طويلة في الصحراء.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات مميزة

DR. MUJË BUÇPAPAJ - ALBANIA .. Poet Mujë Buçpapaj was born in Tropoja, Albania (1962). He graduated from the branch of Albanian Language and Literature, University of Tirana (1986).

DR. MUJË BUÇPAPAJ - ALBANIA  Poet Mujë Buçpapaj was born in Tropoja, Albania (1962). He graduated from the branch of Albanian Language...

المشاركات الأكثر مشاهدة