مكامن و أبعاد العجائبي في ” أسطورة سنجابي ” للكاتب
للكاتبة الجزائرية : تركية لوصيف
بقلم
د. محمد بشير بويجرة - الجزائر
لقد جزمت المنظومة النقدية على أن النص المبدع،
كيف ما كان جنسه الفني، لا يبتدع من فراغ و من عدم، بل ضرورة تشكل جيناته الأولى
نجدها تنغرس في عمق ذلك المنتجع الكبير من الرؤى و الأفكار و من القلاقل الموحية/
المتخيلة في مناحات كينونة مبدعه. و لعل ذلك ما جعل المبدعات الفنية بجميع أجناسها
تأبى الترادف والاتباع و التشابه.
كما أكد نقاد هذه الحقول الفنية و المعرفية
والجمالية على أن مبدعيها يجتهدون أبدا في جمع أشتات ما علق في وجدانهم و حول
حواشي معيشهم المبهرو المتميز في كل شيء ليحوموا حوله بالنبش و بالمشاكسة قصد
الكشف عن مكوانت تشكلات ما يبهر و ما يعجز عن الفهم ثم عن التغابن تخييلا. و وفق
هذه الإحالات اختلف الدارسون و النقاد حول الكشف عن كنه الدوافع و الغرائز لتلك
المبدعات.
و تحت مجهر هاتين الزاويتين وجدتني أقرأ نص ”
أسطورة سنجاني” للإعلامية الأديبة ” تركية لوصيف” الصادرة عن ” دار تديلكت ” في
السداسي الثاني سنة 2016. و هو نص يبدأ بالفقرة التالية: ” الوقت ليل، و الملك
الذي بلغ من الكبر عتيا يترقب عودة ابنه قائد الجنود من المعركة..ص 6″ وينتهي
بالفقرة القائلة: “..واختفينا عن الأنظار و أنا أفكر في العودة مجددا للبحث عن
والدتي…..ص48”.
و بدء، ألمح إلى أن النص قد اجتهدت كاتبته في
صبه ضمن القصص المخصص للأطفال من أول فقرة إلى آخر فقراته، سواء من حيث التأثيث
السردي في الشخصيات أو في الأحداث، حين أسبغت على العنصرين معا كثيرا من العجائبية
و السحرية إن في الأفعال و السلوكات أو في البنى الشكلية المادية/السميولوجية. و
ذلك ما يجعلني أقترح أن يقرأ النص في شقيه؛ الطفولي بكل ما يحمله من خصائص و
مميزات تناسب هذه الفئة القارئة، كما لا أجد مانعا في أن يقرأ النص قراءة رمزية
يمكن الإفادة منها لدى الكبار.
أ ـ مكونات التأثيث السردي العجائبي الطفولي:
إن أولى بصمات هذه المكونات نجدها تتجلى في
لوحة الغلاف التي يظهر فيها “سنجاب” ضخم في حالة غضب والاحمرار يلفه من كل جانب
أمام قلعة ذات معمار قديم جدا تشرف على شط من البحر في حالة هيجان، مع الإغراق في
استعمال الألوان؛ الأسود و البارودي و البني التي تنبئ كأن هناك انفجار قد وقع
فعلا أو سيقع بعد حين. هذه البنيات و الرسومات و الألوان كلها التي توحي بصورة
مخيفة و مرعبة ستتأثر بها، بدون شك، ذائقة الطفل من أول نظرة/ من صورة غلاف النص.
و حين نبدأ في دخول عوالم النص عبر إلماحاته
العجائبية نقع على مجموع الشخصيات ذات المكونات و الأبعاد الأسطورية المتمثلة في
:ـ
ـ الملك الكبير السن العادل و المحب للخير و
الذي تكرهه الشيطانة حتى وفرت كل قوتها و شرارها لمحاربته.
ـ الشيطانة/ فوستيكا و ما يتبعها من رذائل
الناس/ الحاكم المزيف و ابنه و التي كان همها الأول القضاء على الملك و السيطرة
على القلعة.
ـ الأمير/ و لي العهد ” بشامروكا/ سنجابي” و
الذي يتحول إلى سنجاب ضخم عند الشعور بالخطر.
ـ توتو؛ التي شكلت سندا قويا لـ
“بشامروكا/سنجابي”.
ـ العصفور الأبيض الطائر.
و هي الشخصيات الرئيسية في تأثيث أحداث “اسطورة
سنجابي” التي تتلخص في أن هناك ” قلعة ” كان يعيش سكانها في أمن و اطمئنان و في
سعادة حتى تسلطت عليهم الشياطين بقيادة ” الشيطانة/فوستيكا ” التي آلت على نفسها
أن تأخذ ملك القلعة من “ملكها / حاكمها ” الأصلي، فنشبت بينهما معارك حتى انتصرت،
فسارعت إلى نفي الملك الأصلي للقلعة إلى مكان قصي مجهول، ثم ألقت بقائد القلعة،
ابن الملك، مع زوجته الحامل بـ “بشامروكا” في إحدى الغابات الكثيفة حيث كان هناك
صياد سمك، ثم فجأة يهجم عليهم دب ضخم فيفترس القائد و تنجوا زوجته مع حملها. و تمر
الأيام فتتكون علاقة عاطفية بين المكنى سنجابي ” بشامروكا” و بين فتاة جميلة
“توتو” و تتعقد جهودهم حول البحث عن الجد، الملك الأصلي للقلعة، و خلال هذا البحث
تتآزر مجموعة من الأنساق السردية و التأثيثات الجمالية للنص ممثلة في تداخل
الأزمنة/الماضي و الحاضر و المستقبل، و كذا في تناصية مجموعة كبيرة من الفضاءات
المكانية مثل “وادي الموت” و “مكان يسوده الظلام” و ” قلعة قديمة” و ” أراضي
الشمس” و ” الواحة السابعة” و ” كثبان الرمال في الصحراء” و
غيرها الكثير.
و على هذا المنوال تتداخل الوقائع السردية تحت
سطوة مخيال/ و تخييل جدير بأن يعطي للنص نكهة خاصة في العوالم التخييلية للأطفال،
حتى نصل إلى نهاية ينتصر فيها ” بشامروكا و توتو” على كل مخططات الشيطانة و
معاونيها حين ينجحا في العثور على المكان المحبوس فيه الملك فيخرجانه و يداويانه
حتى يعود لقوته القتالية فيقاتل ابن الحاكم المزيف و ينتصر عليه.
= الحمولة العجائبية في النص:
إن النص متخم، ربما حتى المبالغة، في رسم معالم
العجائبي/ التخييلي مما قد يساعد القارئ على إنتاج الفكرة، أو الأفكار، التي
يستلها بنفسه تحت إلحاح مكونات غرائزه التخييلية، و بخاصة لدى فئة الأطفال، و لقد
مست الصيغ العجائبية كل المكونات السردية مثل:
1ـ الشخصيات العجائبية في
النص مثل “الشيطانة/ فوستيكا التي كانت تتحول إلى اشكال غريبة كاللهب الحارق و
الطيران و القوة على الرمي و القذف و غيرها من الأعمال و الحركات التي يعجز
الإنسان العادي أن يفعلها. ثم تليها شخصية ” بشامروكا/المسمى سنجابي” الذي كان
يتحول إلى سنجاب ضخم عند الشعور بالخطر فيطير حاملا فوقه الفتاة “توتو”، ثم يأتي
الطائر الأبيض الذي يطير بـ “توتو” إلى مسافات بعيدة عند الضرورة مثل جلب “أنواع
الثوم” من فلسطين.
2ـ عجائبية الفضاءات؛ الأمكنة
و الأزمنة:
و هي كثيرة جدا و متعددة مثل الأمكنة المظلمة
بداية بالقلعة و دهاليزها، ثم الشعاب و الوديان و الصحارى و ظلمات الليالي و
الجبال الشاهقات؛ مشجرة و قاحلة، الواحة السابعة، الشمس الحارقة، قلعة الشر، و
غيرها كثير. ثم ذلك التعدد و التقاطع العجيب في الأزمنة حين نقرأ بين الفينة و الأخرى
” كانت الشيطانة تتحدث عن الشر عبر الزمن..ص35″ “..مر وقت طويل..ص20 “، “..لحملهما
إلى زمن المستقبل..ص 10″، “..الزمن الحالي..ص11″، “..فتحة
تطل على الزمن بصورة ضبابية..ص 11″، “..و أنا أبعدت إلى زمن غير زمني..ص 28″،
“..سأسافر إلى زمن المستقبل..ص 9”.
3 ـ عجائبية الأحداث/الآفعال:
و هي كثيرة و متعددة أيضا و بخاصة من “فوستيكا”
التي كانت تظهر على طبيعتها المقرفة ، فتزلزل الجبل و تجعله كتلة نارية
متوهجة..ص9″، “..تحدى الحاكم لها استفزها، فحملته في لمح البصر إلى أقاصي الصحراء
و توغلت به في العمق، ثم خرجت تنتفض وطارت في الفضاء…ص9”.
و ردا على تصرفات الشيطانة العجيبة و الغريبة
نجد “بشوماركا” أيضا عند ما “…رغب في تحطيم قلعة الشر فأكل لب الجوزة و تحول و قفز
في النهرو كان هائجا جدا، فضرب الزورق بذيله فتعالى في السماء ثم هوى من جديد في
عمق النهر العميق فهلك من به و قام بقطع الحبال بسنه البارز، و كان يقتلع القلعة
من أساسها و يدفعها بداخل النهر العميق…ثم توقف العملاق أمامي فشعرت بالرهبة ثم
حملني بيده و وضعني على ظهره فتشبثت بشعره الكثيف و راح ينط و ينط على جناح السرعة
إلى الواحة السابعة..ص 36”.
و زيادة على هذه السلوكات و الأفعال الخارقة
للعادة و المنافية للمعقول يجد قارئ “أسطورة سنجانبي” حيوانات مفترسة تفتك
بالإنسان دون رحمة و لا شفقة مثل ذلك الدب الضخم الذي “..وثب فجأة على الأب و قطعه
إلى أشلاء متناثرة..ص13″. ” و غير ذلك من الصور و البناءات المتسمة بالعجائبية و
الغرائبية. مما يزيد في إغراق النص داخل منعرجات الخريطة التخييلية للقارئ.
ب ـ الأبعاد الرمزية لمكونات الحال/ للقارئ
الكبير:
يبدوا من خلال كل مكونات البنية السردية لـ ”
أسطورة سنجابي” أنه مبدع لفئة القراء من الأطفال و فق بعض ما أشرنا إليه باختصار،
لكن ذلك لا يمنع من أن الفئة القارئة في عمومها قد تجد فيه كثيرا من الإحالات
الرامزة إلى معاينة الحال و الوضع العام في العالم كله و في العالمين العربي و
الإسلامي على وجه الخصوص، و ذلك حين رمزت الكاتبة إلى كل ذلك بتناصية الفقرتين
القائلتين: “..جبال الطاسيلي الشاهقة أين تقع قلعة المحبة أهلها طيبون و رعاة،
بيوتهم تنتشر هنا و هناك ، و جلبة الماعز و ضحكات الأطفال و جموع النساء العائدات
بجرار الماء الطينية و المزركشة بألوان الحياة، سمات الحياة اليومية…تعود الملك
قضاء وقته في تلك الجبال ، يستيقظ باكرا و يمتطي فرسه، و يحمل القوس على كتفيه
لاصطياد الطيور الجارحة و يعود بها إلى القلعة، و يضمد جراحها و يدعوا أطفال
الرعية لحضور إطلاقها مجددا في الفضاء و يقول: نحن شعب شجاع و حر، فيردد الأطفال
هذه الجملة من بعده…و كانت الصقور و النسور ترفرف و ترفرف ثم تعود و تحط على كتفي
الملك… ص 8″.
إن تتابعية النسق السردي لهذه الفقرة التي تمثل
امتدادا للنص في عمومه كأنه يفيد رمزيا، الإحالة على أن ” القلعة ” التي تريد أن
تحطمها “الشيطانة” هي الجزائر باعتبارها فضاء محبوبا/ و مغر تكالبت عليه و ما زالت
تعمل على تحطيمه قوى الشر و الظلم و الطغيان بداية من سنة 1830 إلى محاولة عزل
الصحراء عن الجزائر في محادثات “إفيان” و مرورا على سنين الجمر و على أحداث
“تيقنتورين” و وصولا إلى ما يحاك الآن ضد الجزائر في منطقة الساحل.
و مما يؤكد ذلك نجد تضمين النص لكثير من
الإحالات التي تفيد ذلك مثل:ـ
ـ الفقرة التي تقول: “..قدم من بلاد أفريقيا
فتى و فتاة لهما حكمة الخلود، فعلى كل أي شخص يرفض الموت أن يدفع صندوقا من القطع
الذهبية. انتشر الخبر بين الناس..ص 39”. طبعا يمكن حمل الفقرة على الإيحاء و على
الرمزية بإخراج الموت عن دلالته المتعارف عليها إلى دلالة إيحائية و هي “الخلود
بالأفعال و بالمواقف الخالدة مثل تلك التي تأتيها الجزائر دائما خلال تاريخها
الماجد و هي تنتمي إلى العمق الأفريقي و بخاصة في المدة الأخيرة.
ـ الفقرة التي تقول: ..ثم تسلق سنجابي إحدى
النخلات و رمى بعرجون من التمر الذي يسيل منه العسل، فاستعدنا طاقتنا سريعا و قال
هذا التمر اسمه دقلة نور تعرف به الجزائر دون سواها..ص 37”.
أما الفقرة الثالثة التي نجدها في لقطة سفر
“توتو” على “العصفور الأبيض” إلى “فلسطين” لجلب “ستين نوعا من الثوم” من أجل
معالجة عضة وبائية لـ ” بشامروكا ” من طرف جرذ ضخم، حين تقول الفقرة: “..حط عصفوري
على مرتفع “نابلس” لنرتاح قليلا، و أمتع ناظري بجمال الطبيعية الفلسطينية…ص 41″،
فهي تؤكد على أن هناك علاقة سرمدية مقدسة بين الجزائر و بين فلسطين، الجزائر التي
قال أحد رؤسائها: “..نحن فلسطين ظالمة أو مظلومة..” و التي ما زالت الجزائر البلد
الوحيد الذي يصرح و ينافح عن فلسطين.
من خلال هذه الفقرات و غيرها يبدوا لي أنه يسهل
على كل قارئ أن يستخرج الأبعاد الرمزية لحالة وضع الجزائر عبر المراحل التاريخية؛
وضع تكالبت عليه قوى الشر و الحقد إما من الشياطين في كراهتهم لكل ما يمت
للإنسانية بخير أو من خدامهم مثل ” الحاكم الذي سيدته الشيطانة على القلعة” بعد
طرد ملكها الأصلي. كما أجد في الفقرة التي قالتها “توتو” قبيل مبارزة ابن الحاكم
الزائف للقلعة التي تمثل “الوطن” لـ ” جد ” بشامروكا/ ولي عهد القلعة : “..إن
الحاكم يناشد الخلود، و قد جئنا من بلاد أفريقيا، حيث لايموت بها حاكم، و لكي
يتحقق له هذا عليه مبارزة هذا الرجل العجوز فحسب…ص 44”. إن تأكيد وجود الخلود في
أفريقيا حسب الفقرة ليس اعتباطيا، بل يمثل حقيقة تاريخية حين ظلت أفريقيا بثرواتها
و بشبابها تمنح الحياة و الاقتصاد لكل الأنظمة الاستعمارية الغربية حتى الآن؛
بمعنى أفريقيا تمنحها استمرار الحياة و دوام التألق على حساب إفقار شعبها و حرق
أراضيها.
مما لاشك فيه، أن ورود كل هذه التأثيثات
المتنوعة ضمن النسق السردي للكاتبة، و هي إعلامية متميزة، لم تؤتها هكذا اعتباطا،
بل أرجح بقوة أن تكون حمالة لجملة من الرسائل الدقيقة و المحددة جدا لقواعد نشر
الثقافة الوطنية ضمن ذاكرة الوطن الجزائري الثرية و المتنوعة للقارئ بنوعيه؛
الأطفال بصيغة الفقرة الأولى و الكبار في الصيغة الثانية.
و وفق كل ذلك يمكن أن تحيل كلمة “القلعة” إلى
الجزائر، و الملك إلى “الوعي الوطني” الذي حاول المستدمرون نفيه و إبعاده عن أرض
الجزائر، لكنه رغم كل ذلك كان يخرج “بشاموركا و توتو” من بين الأدغال و من العدم
ليعيدانه و يثبتانه في وطنه الجزائر.
و أجد كل ذلك ينسجم مع الحمولة الأيديولوجية
التي تحملها و تؤمن بها الكاتبة “تركية لوصيف”؛ أيديولوجية التي وجدتها مبثوثة في
كل ما تكتب و في ما تبدع مخصص بالدرجة الأولى للطفل؛ مسرحا و قصة قصيرة و تنشيطا
لهذه الفئة العمرية التي نعتبرها دائما المشتلة الحقيقية لحفظ كرامة الوطن و الذود
عن شرفه.
و بعد ذلك أقول بأن هذه السطور انفلتت طواعية و
أنا أقرأ نص “أسطورة سنجابي” و هي بالضرورة لا تفي النص حقه و لا تغطي كل ما جاء
فيه، كما أؤمن بأن ما رأيته في النص هو رأي شخصي قد لا يتفق ولا ينسجم مع الغير. و
في كل الحالات أتمنى للأديبة الإعلامية “تركية لوصيف” مستقبلا زاهرا في العوالم
السردية و الإعلامية.
د. محمد بشير بويجرة
الجزائر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق