تطرح رواية شقراء البصرة بعد الإهداء مباشرة سؤال هام يتطلب تأويل واقتراحات سردية داخل الفضاء الروائي؛ لأنه يؤدي ضرورة إبداعية هامة تتعلق بالعلاقة بين الدال والمدلول لتوجيه النص إلى فهم العوالم التي تصبح منكشفة عبر وجود كل المظاهر المتاحة وتفصح عنها في عالم ذي مغزى. لذلك ربما علينا أن نتأمل في أي سؤال يمليه الإبداع الذي يقدم أسئلته وينتظر الإجابة ،أو كما يقول دريدا في مقاله " خارج العمل "؛ التي – تتعارض بصفة خاصة مع تصور الأدب المتعارف علية:
( لماذا ينبغي على " الأدب " أن يظل يشير إلى ما ينفصل بالفعل عنه – عمَّا جرى تصوره والإشارة إليه تحت اسمه . أو عما يدمره تدميرا لا هوادة فيه ، ولا يكتفي بمجرد الروغان منه ؟).(p. 3 Dissemination).(2).
وبالتالي تلك العلاقة بين هذا السؤال ذلك اللغز الذي لابد من تفكيك شفراته وبين المدلول المختفي وراءه، هي تشبه بالضبط العلاقة بين السرد وحدثه. والسؤال هو: هل جمال المرأة نعمة أم نقمة ؟ لاشك أن الإجابة المباشرة لا تعنينا ؛ لأننا نبحث عنها في داخل هذا العمل السردي بشكل خاص ؛ فالأدب لا ينبغي أن يظل يشير إلى ما ينفصل بالفعل عنه كما أشار دريدا ، ويخالف التصور المعتاد إليه بل ويصل به إلى حد التدمير تدميرًا لا هوادة فيه . وخاصة إذا علمنا أن الإجابة على هذا السؤال المطروح: هل جمال المرأة نعمة أم نقمة ؟وراءه مأساة إنسانية كبيرة عاشتها بطلة الرواية الحقيقية الدكتورة ياسمين ناظم ، وكل من حولها بسبب جمالها الصارخ وظهر في إبداع كامل وساحر من خلق الله. وكأنها تحاكي لوحة فنية رائعة ومبهرة دون خطأ ولوسهوا. من الشعر الأشقر والعيون الزرق والبشرة البيضاء المحمرة، والتفاصيل الأخاذة والمثيرة التي تثير الدهشة والتساؤلات .
ورغم أن ناريمان يعقوب المسيحية اسمها وديانتها الحقيقية من أم وأب لبناني قتل في الحرب الأهلية اللبنانية، وعلى اثره هربت الأم من جحيم الحرب مع مجموعة من اللبنانيين والعراقيين على متن طائرة عراقية أقلتهم إلى البصرة والطفلة ناريمان ورثت نفس ملامح الأم. أي أنها في النهاية عربية من بلد شقيق في محيط الوطن العربي، وليست من بلد أوروبية مثلا لتتعرض لهذا التمييز الذي جلب العديد من الأحداث المؤسفة لها ولغيرها في مدينة البصرة. التي بصدفة قدرية تولد فيها وتنشأ وسط أسرة عراقية ، وتنمو وتترعرع في ثقافته وعاداته وتقاليده وتتعلم وتتزوج وتنجب ، وقد تحولت من ناريمان يعقوب المسيحية إلى ياسمين ناظم المسلمة على يد السيدة سوزان العاقر رئيسة الممرضات في قسم التوليد والنسامع وزوجها السيد ناظم الممرض في مستشفى كبير في البصرة ذوات البشرة السمراء الداكنة. التي أتساءل هل لون بشرة السيدة سوزان والسيد ناظم اللتان أصبحا والديها هما سبب كل تلك المأساة والعناء الذي عاشت فيها البطلة ياسمين ؟أم أنه قدر في كل الأحوال كانت ستعيشه، لأنها شقراء ومختلفة عن الواقع والمجتمع العراقي. وقد أقنعت الممرضة سوزان الأم الحقيقية روزلين بعد أن ولدتها تلك الطفلة الجميلة أن تتركها ترعاها وتربيها وتعطيها مبلغ كبير من المال تسافر به إلى أي بلد أوروبية مع طفليها الآخرين، وأن طفلتها أمانه لديها عندما تستقر أمور الأم في حياتها الجديدة. وافقت الأم اللبنانية وسافرت إلى أوروبا التي عرفنا بعد ذلك أنها الدنمارك. وتركت طفلتها تبدأ حياة شائكة ومريرة بسبب لونها الأشقر مع أبوين ذات بشرة سمراء داكنة.ليتحول جمال ياسمين إلى نقمة فوق تصور الجميع مما ألت إليه الأمور لبعضهم من قتل ،أوسجن ،أوخلل عقلي والكثير من الأحداث التي تفوق التصور من فرضية هذا الجمال الصارخ وتجليات أبعاد ومظاهر هذا التمييز في مدينة البصرة.وقد بدأ تأثيره عليها وعلى من حولهامنذ ولادتها والجميع يندهش من جمال هذه المولودة، وأنها توحي بأنها كائن مختلف دفع الأم سوزان تأخذ إجازة من العمل وبيع منزلها وشراء منزل جديد في مكان بعيد عن عيون الحاسدين. وغيرهم ممن يشكون في نسب هذه الطفلة الفاتنة،و كلما كبرت ياسمين تعرضت للكثير. في عمر الثالثة حاولت سيدة سرقتها من أمها في المنتزه بعد أن فتنت بجمالها وطلتها الجذابة التي أغوت السيدة لحد سرقة الطفلة حتى اكتشف أمرها ، ودخلت السجن لولعها بالطفلة ياسمين. وعندما تبدأ عمر السادسة بداية دخول المدرسة تحرج مديرة المدرسة الأم سوزان ،وتظن أنها الخادمة وتسألها عن الأم الحقيقية بسبب اختلاف لون البشرة الواضح بينهما. وتتصاعد الأحداث في حياة ياسمين في المرحلة الثانوية عندما تُعجب بها مدرسة العربي وتطلب أن تذهب لبيت والديها لتخطبها لابنها، ولكن عندما تشاهدهما بتلك البشرة السمراء الداكنة تتفاجأ وتستغرب وتعبر عن استيائها الشديد وتنصرف غاضبة،وقد ملأها الشك من نسب عروسة المستقبل بل وتنشر تلك الشائعة في المدرسة ، وتنهار ياسمين من همسات زميلاتها والجميع أنها ربما تكون لقيطة أو تبنوها وليس معروف والديها. وتستطيع الأم سوزان أن تحتويها وتعدها أنها ستخبرها بالحقيقة بمجرد أن تنهي المرحلة الثانوية وتتفوق وتدخل كلية الطب وتنقلها لمدرسة أخرى؛ لتتجاوز رؤية الجميع وتحقق هدفها الحقيقي أن تنجح وتتفوق على الجميع. ولكن رغم جمال وقوة شخصية ياسمين وفرحتها بالالتحاق بكلية الطب كما تمنت تتوالى الأحداث في ملاحقتها في الجامعة داخل دائرة واسعة من أطياف مختلفة .وتتوالى الأحداث بشكل مأساوي وفادح الثمن لتفرض قتامة هذا التمييز المستدعي من مجرد لون البشرة والعيون الزرق والشعر الأشقر؛وتتحول تلك المجردات المادية إلى كينونة تنقل مجريات الأمور بشكل عبثي وغريبوتلقي بالعديد من الأشخاص في أفخاخ مصيرية سيئة للغاية ، وتنهي حياتهم بكل قسوة وعنف لا مثيل له ، وتبدو كحالة جماعية أن تنفر هذا الجمال والاختلاف الواضح لحد كبير، وياسمين دون ذنب لها تواجه كل شرورهم التي تكون مرة بالحسد والغيرة والحقد، ومرة بالشك والارتياب من أصولها.بل ومحاولة اغتصابها وكسرها عنوة كما دبرت لها زميلتها سميرة الثرية في الكلية. تلك الخطة الشريرة عندما قامت بدعوتها إلى منزلها ومحاولة تخديرها؛ ليقوم أخوها بتنفيذ الخطة لولا أن أنقذها الله في اللحظات الأخيرة. وكأنهم لا يحتملون وجود هذا الجمال الصافي الكامل دون أن يقوموا بتشويهه، وربما بتره من المجتمع بمشاعر من الضغينة والكره لاغير، وهكذا أيضا كان معادل الحب لينطبق المثل الشائع"ومن الحب ما قتل". في كلا الحالتين شقراء البصرة تعاني معاناة شديدة ليس فقط لتعرضها لأحداث مؤسفة، ولكن أيضا لما يحدث للأخرين من كوارث حياتية بسببها سواء كانبالكره أو الحب. فمعاناة ياسمين تتجاوز آلام البشر العادية. والسبب إلهي وقدري أنها جميلة جمال فاتن وطاغ. حتى عندما عشقها ابن خالتها إلى حد الجنون كان حب خاطئ؛ لأنه فاشل في الدراسة ويعاقر الخمر ويعمل ميكانيكي سيارات في الحي الصناعي في البصرة. ورفضته الأم والابنة رفضًا تامًا لأن كلاهما طريقهما مختلف. فياسمين نموذج العلم والجمال التام بشخصيتها القوية والمثقفة والواثقة بنفسها وقدراتها. لكنه استمر يلاحقها حتى بعد أن تزوجت وأنجبت وتوفي زوجها ،وظلت ترفضه لاقتناعها أنه لا يصلح لها في كل الأحوال سواء فتاة أو سيدة أو حتى أرملة. لكنه متهور ومجنون وحاول قتلها وأصيب بلوثة وهستيريا حبه ودخل مستشفى الأمراض العقلية. ودخلت ياسمين المستشفى في حالة حرجة للغاية حتى شفيت وعادت إلى الحياة وكرهت نفسها بعد أن علمت ما حدث لابن خالتها .وانهارت وحطمت كل أدوات الزينة والمكياج وهي تبكي وتندب حظها لكل من أحبوها أو حتى كرهوها وحاولوا الاتتقام منها كما حدث لزميلتها سميرة التي قتلها أخوها بسبب أنها وقعت في المحظور مع زميلها وأصبحت حامل والتي في السابق حاولت أن تفعل في ياسمين نفس الموقف. فعاقبها الله بالقتل وأخوها بحكم السجن المؤبد.
ومع المسار الروائي تتعدد تلك اللحظات والشواهد المؤثرة في دورة الحياة؛ لتجسد تلك اللحظات إحالة قوية وفعالة التأثير تهدف إلى خدمة الشخصية الأبداعية عن مدى الوعي بالذات. وتشريح وتفكيك تلك التفاصيل بالبحث في عمق وجوهر هذه الشخصيات من أجل معرفة تلك الذوات ،وإضاءة الأحداث ووضع تصورات عن تلك الهوية الشخصية .كما أشار (جوناثان كالر): (تُعد اللحظاتُ ذاتية الإحالة لحظاتِ جوهرية غالبًا في تأسيس هوية النص الأدبي ، شأنها شأن معرفة الذات والوعي بالذات الأساسيين في تصورات الهُوية الشخصية ).( p.11 ).(3). بمعنى أن كل هذا البناء السردي من أحداث وحوار يطاله ويتلاعب به محرك واحد داخل ملعب اللون الواحد؛ ليؤجج نهج التمييز الغير منطقي بكل أشكاله وعواقبه الخطيرة والمصيرية لكل شخص على حدا. حتى نشعر بهذا اللون وقد تحول إلى لعنة أو أسطورة غير مبررة من وجهة النظر العاقلة والموضوعية في تفهم الأمور. وخاصة أن ناريمان يعقوب فتاة عربية.ولولا تلك الحرب التي نشبت في لبنان ما قتل أباها،ولاهربت الأم ولا جاءت شقراء البصرة التي أحضرت التاريخ الماضي المؤلم للحرب والنتائج المترتبة عليها ويدفع ثمنها الأبرياء. وجغرافيا مكان جديد في بلد أخرى لم تستطع تقبل واحتواء كل هذا الجمال والنور البهي داخل بيئة لديها ثقافة وعادات وتقاليد لها تصورات مختلفة وشائكة عن كيف تكون بشرة الأطفال عندما يولدون. لإ ما تلاحقهم العيون بالحسد والغيرة وتمتد مشاعر المغاير الغير مستحب إلى ما هو أقرب من العنصرية وراء ستار الريبة والشك أمام كل مختلف. ولو كان مجرد اختلاف ظاهري وشكلي لأقصى درجة. لأن ياسمين كانت من الداخل فتاة مطيعة وبارة بوالديها ومهذبة وذو خلق وملتزمة دينيا وعمليا ولديها من قوة الإيمان والضمير ما يجعلها أية في الجمال والعقل. وكل ما تتعرض له ناريمان مجرد تمييز لوني أخرق ولا معنى له إلا في عقول هؤلاء البشر الحمقى من وجهه نظر العقل.
وبين تلك الفترة الزمنية الممتدة من عام 1974م إلى موعد لقاء الراوي العليم بالأم السيدة سوزان صاحبة تلك الحكاية الحقيقية في عام 2018م في القطار السابعة مساءً ببغداد كابينة رقم 28 المتجه إلى البصرة.الروائي لديةموعد هام بدعوة من أحد زملائه، والأم سوزان في رحلة عودة إلى بيتها مع البطل الثاني زوجها السيد ناظم والبطلة الثالثة محور الرواية الدكتورة ياسمين طبيبة اختصاص نساء وتوليد في مدينة البصرة. التي كرست كل حياتها للعمل وتربية ابنتها الوحيدة.
هناك إحالة هامة كانت بمثابة الشرارة التي فجرت كل تلك الاستلهامات السردية بتدفق لغوي ورؤية كاشفة تشف عن رؤية ثاقبة. وقد انساب الحوار بين السارد الواقعي بشخصه وصفته الحقيقي بأنه قاص روائي، وكان يقرأ في رواية عزازيل للكاتب المصري يوسف زيدان وقام باخبارها بحكاية الرواية وأنها رواية حقيقية وبها ولو قدر من الخيال والجهد الأدبي، وهذا من وجهة نظره أفضل في الأعمال الإبداعية. لأن القصص الحقيقية غالبا قليلة وقصيرة. لكن السيدة سوزان رغم أنها معجبة بالرواية، وتلك الحكاية التاريخية وما بها من خيال وإبداع .لكن ترى أن الحكايات الحقيقية أحيانا أيضا تتفوق على الخيال ولا تحتاج له، لأنها مكتملة العناصر ورغم اختلاف الآراء بين الروائي الحقيقي والسيدة سوزان. لكن ياسمين ناظم تلك المرأة الحقيقية التي جسدت شقراء البصرة أشعر أن بها هذا التعالق الروحي والعقلي الذي لا يختلف في مغزاه مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة وقد تلاقت روح العالمة هيباتيا التي حاولت ان تتحرر بالعلم والاجتهاد وتكون مختلفة عن هؤلاء الغوغاء المسيحين الذين قتلوها بتحريض من البابا في الإسكدزية. بينما يأتي الراهب هيبا من منطقة أخميم في صعيد مصر ليدرس اللاهوت والطب ثم يتوجه إلى فلسطين ثم إلى دير قريب من أنطاكيا ويعيش صراع نفسي طويل مع العقيدة حتى يتحرر تماما من جميع مخاوفه. ويترك الدير باحثا عن الطريق الذي يريد السير فيه بدون شكوك أو هواجس أو استسلام. هكذا أصبحت شقراء البصرة فإذا كانت هيباتيا تحررت بالموت والراهب هيبا بالرحيل عن الدير والتحرر من كل مخاوفه هكذا أيضا شقراء البصرة تحررت من لعنة هذا الجمال الصارخ ،وكل مباهج الحياة وأهدت عقلها وروحها وجمالها ووقتها وثراءها وكل ما تملك للبحث والدأب والعمل من أجل خدمة وإنقاذ حياتهن وتوليدهن أبناء الحياة التي وهبها الله لهن من خلال عملها وإخلاصها لوجه الله. وهذا هو معنى الجمال الحقيقي.
لا شك أن اختيار الروائي لرواية عزازيل كانت بمثابة كشف موجه بقصد إبداعي لتفعيل اللحظات الذاتية في هذا البحث الشائك عن الهوية الشخصية، وهل هي مجرد لون للبشرة أم روح قوية ومثقفة أم رسالة عالية القيمة؟ّ! وأن الجمال من الممكن أن يكون نقمة عندما تتلقفه مخالب مجتمع محدود وصارم التصور أمام رؤية الآخر. ومن المنطقي والطبيعي أن يكون الجمال نعمة من نعم الله التي لا تحصى علينا؛ لأنه منحة وهبة تستحق أن نحافظ عليها ونستخدمها استخدام صحيح ومفيد كما فعلت الطبيبة ياسمين ناظم التي تعرضت للظلم والقهر من الجميع حتى أقرب الناس إليها مثل العالمة هيباتيا التي حرض بابا الاسكندرية على قتلها، والراهب هيبا التي حاولت الوثنية اوكتافيا اغواءه وياسمين التي حاول أسمره قتلها. لكن جميعهم تحرروا بالبحث والعلم وقوة الايمان.
الهوامش:
رواية ( شقراء البصرة) ، عبد الزهرة عمارة – ط1: 2019م ، دار نشر أمارجي للطباعة والنشر– العراق.
انظر المصدر: التفكيك والأدب :" هيدجر–بلانشو- دريدا". تأليف: بتموثيكلارك.ترجمة : حسام نايل ، الناشر : مؤسسة هنداوي – 2023م.ص:135
(م . ن) ص:19