Translate

الخبز الحرام قصة قصيرة للكاتب السوري / سالم سلوم



 قصة قصيرة

الخبز الحرام
..من داخل ستارة حمراء اللون، تخرج فجأة حسناء مهفهفة، بجسدها البض ، زراعيها يتعانقان تارة، وينفكان تارة أخرى، كأنهما عاشقان بثوب شفيف بالكاد يغطي جسدها اللولبي المتراقص بتناغم مثير، بحمالة النهدين؛ اكتظت ببراقع شتى، على أنغام موسيقا، تهزه ببراعة يمنة ويسرة، فتنتشي القلوب وتطرب، مع كل دقة ، مع كل إيقاع دم..تك..تك.. تتمايل بخصرها وتتلوى، حرارة التصفيق، تعم أرجاء المكان ،
بأنواره المتقلبة حمراء تارة، صفراء تارة، خضراء زرقاء، بتواتر عجيب، قلوب الحاضرين، أشبه بساعة جدارية كلما أقترب العقرب الكبير من الصغير تنتفض معلنة بلوغ النشوة، حين تلتمع أعينهم المتعطشة لجسد يميل ويتراقص كثعبان أليف، حين تستعر النيران في وجوههم، تبدأ التحايا وحرق الأوراق النقدية على رأسها ومن حولها، من كل حدب وصوب،
تتالى التهاني والتحايا، ابتسامة صاحب الملهى أكبر دليل على رضاه، فتلك الراقصة المعروفة و التي كانت السبب في إظهار هذه التحفة الجديدة ، بعد ألمٍ، ألمّ بها فجأة، وخوفا من أن يغلق المكان، ويذهب الرواد إلى مكان آخر ، جزت بها عوضا عنها، بعد أن كانت مرافقة لها وخادمة مطيعة لسنوات خلت، إذ كانت تجمع النقود من تحت قدميها العارتين، من على المنصة ذاتها، تلك النقود المتساقطة من أيادي الساهرين على رأسها..
هي الآن مكانها""
تراقبها بصمت من داخل الستارة..وعيناها تقولان: أين كان كل هذا السحر.؟!
أين كانت تخفي كل هذا التميز ؟
جيب صاحب الملهى سوف يكتظ هذه الليلة ويعتمر..
وهو الشاكي الوحيد أيضا من قلة الدخل والمردود.
كان ينعتني بتقدم العمر "" دنيا..
تقول في نفسها سيدتها.
أصوات التصفيق تقطع شرودها.
حتى الرواد كانوا أناس لا تبدو عليهم علامات الثراء،
هذا الذي جاء هاربا من واقع أسري مقيت
وذاك الذي جاء صدفة، إذ كانت المرة الأولى له يدخل هذا المعترك، والذي سأل نفسه. أين كنت أنا؟
الناس في واد وأنا في واد.
حتى أولئك المعتادون على السهر والانبساط والمجون والذين لا يدرون من أين تأتيهم الفلوس، أو ذلك التاجر الذي اجتمع مع لفيف من أقرانه بعد أن ربح مالا كثيرا في صفقة مشبوهة، وآخرون أيضا ، لايخلو المكان من بعض اللصوص الذين لم يتعبوا في صرف ماجمعوه وما جنته أيديهم من حرام بحرام، ""وو ..
حينما يغادر الجميع المكان، لا أحد يتذكر شيئا.. قد دخلوا إليه بحال وخرجوا بحال، منهم من يصيح، ومنهم من يتقيأ، ومنهم ما زال قادرا على الحركة دونما تركيز، فالخمر قد فعل فعله في أبدانهم المتهالكة صباحا.
تعود متأخرة كل صباح ، كعادتها، تجمع ما تستطيع جمعه من فتات الآخرين، فهناك أفواه تنتظر قدومها بفارغ الصبر، حين تقدم لهم ما تحمله في أكياسها تقرأ في أعينهم ما تمني النفس بلقياه،إذ ترتسم على وجوههم علامات الحبور، تخلد لنوم عميق.
لا مكان للأحلام في حياتها، همهما الوحيد أن ترى أخوتها أصلب عودا، وقد اشتدت سواعدهم وشقوا طريقهم لترتاح ، أجل مسؤولية كبيرة على عاتقها ثلاثة أطفال في عمر الورود،
ولا معين إلا الله، حين غاب الأقرباء وتركوهم للهباء، تحجرت الدموع في عينيها، قالت : مخاطبة أخوتها لنا الله.
فكرت كثيرا..احتارت وتاهت في دروب الحياة المضنية، وكانت تسأل دوما نفسها..
ماهذا القدر ؟.. كيف لي أن أتحمل مشقة تربية أخوتي..من أين لي بتحمل مسؤولية جليلة وأنا لم أتجاوز السابعة عشر بعد.
ماذا سأفعل بعد رحيل أبي وأمي إلى الأبد،
في حادث مأساوي فعلت الأقدار فعلها.
تقرأ شريط ماض جميل..
كيف كانت حياتهم بوجود السند والعزوة،
نبع الحنان وفيضه من أم كان همها الوحيد تنشأة أولادها على الخُلقِ الحَسن.
ها هو.. والدها يعود مساء حاملا جميع الحاجيات اليومية بفرح وسرور يقدم كل ما كان يحمله، بعد يوم شاق من العمل.
يمر شريط الماضي، كسحابة صيفية لكنها ماطرة هذه المرة، إذ تنهمر دموعها على خديها الحمروان..وتغص في جوفها آلاف الكلمات والمعاني والعبرات،
حين تتأمل تلك التركة الثقيلة على كاهلها، ثلاثة أخوة لم يبلغا سن الرشد بعد ، بحاجة الى كل شيء، والأهم من ذلك كله ما قد فُقد، لكن ما باليد حيلة، هذه مشيئة الله،
تتالى الأيام بما فيها من منغصات يومية، في حياتها، هذا الذي يريدها بغير شرع، وهذا الذي ينتظر افتراسها كذئب، وهذا الذي يتحرش بها..وو..
ولايخفى أيضا ألسنة أهل الحي الذي تقطنه، والتنمر الحاصل من بعض المتحذلقين، والنسوة الممتعضين، وحتى شيخه، الذي قذفته يوما بلسان سليط، بعدما قذفها هو الآخر ببعض العبارات، فما كان منها إلا أن جعلته عبرة لغيره من المنافقين، حينما فضحت حقيقته وفجرت قنبلة دوت وتطايرت شظى بوجهه عندما حاول لأ كثر من مرة أن يتخطى حدود اللباقة بخبث ملمحا لغض بصره عنها وقطع ألسنة العباد بعقعد عرفي، حينما حاول أن يختلي بها عنوة، رفضها له كان إعصارا زلزل كيانه، تلك المتناقضات والمتاهات التي تمخر عباب حياتها، كانت كابوس يجثم على صدرها، معاناة بكل مكان، حاولت الفرار من واقعها المخزي والأليم، فكرت ذات مرة، أن تتزوج حين تقدم شاب إليها، كانت راغبة حقيقة به لكن .. وجود أخوتها والأمانة التي فرضت عليها.. ألات على نفسها أن تبقى فوق رؤوسهم..
في أحد الصباحات. وبينما كانت في الشارع مع ورودها ...
تنادي عليها سيدة :
تبدو عليها علامات الثراء، تلك السيدة كانت طاقة الفرج، بالنسبة لها..
تأخذ كل مافي حوزتها من زهور تدفع لها ضعف الثمن، علامات الفرح والحبور المرتسمة على وجهها وهي تحمل ما لذ وطاب مهرولة إلى أخوتها المنتظرين عودتها بفارغ الصبر،بعد فترة ليست ببعيدة أصبحت المرافقة والخادمة الوفية لتلك السيدة، اذ تعلمت على يديها كل شئ، تعلمت فنها وتعلمت كيف تجابه الواقع وتعلمت أيضا أن الأقدار كفيلة بتغيير كل شيء.
مر شريط الذكريات سريعا، وهي تتأمل أخوتها ذات صباح، بانتظارها بوجوه عابسة ممتعضة، بسكاكينهم المشحوذة حينها"" سقطت من بين يديها أرغفة الخبز على الأرض، وعينيها تقطر دما.
تمت وبالخير عمت ..انتهت...........
..سالم سلوم / سورية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات مميزة

قدْرَ العربْ للشاعر : متولي بصل - مصر

  قدْرَ العربْ متولي بصل مصر *** غدا يعرفُ الناسُ قدْرَ العربْ وأنَّ العروبةَ   مثل الذهبْ وأنَّ البلاءَ على قدْرِها عظيمٌ و...

المشاركات الأكثر مشاهدة