Translate

حداد لم يكتمل قصة قصيرة بقلم الكاتب المصري م. مهاب حسين

 


حداد لم يكتمل

بقلم

الكاتب المصري

م. مهاب حسين

جلست أمامه، أحدق في ذهول:
- كيف فعلتها؟.
بدا كأنه يحادث نفسه:
- بدأوا يظهرون ليلاً بعد موعد الغلق، جلبة وأصوات طقطقة، تزييق، وهمهمات، وأحياناً صراخ!. مما أثار فزع أهالي البنايات المجاورة. وكلما داهمنا المكان، لانجد سوى الصمت وأعقاب السجائر، ونباتات زيتية غريبة، ذات رائحة نفاذة!.
يدخلون ويخرجون كالأشباح، مخلفين دليل مكوثهم آمنين.
بدهشة تساءلت:
- وهل أبل...
قاطعني في حدة:
- نعم أبلغنا المسئولين، ولكن بلا طائل.
- والغفراء؟.
أطلق زفيراً حاراً:
- انتابهم الوجوم وأصروا على ترك العمل!.
- هأ.. هأ.. أشباح يعني!..
- الأشباح لاتترك رسائل.
فغرت فاهي:
- هه..
- إنذار أول، إنذار ثان.. ثم بدأنا لعبة الغميضة.
- ماذا؟.
- بالتناوب، عمال يختفون لأيام، ثم يعودون.. بوجوه متورمة، رائحة نفادة تغمرهم، زرقة تفترس أجسادهم، لايبوحون بشيء، وكأن أكياس ملح متكلس تحشو حلوقهم، يكتفون بهز رؤوسهم في أسى. وهكذا استمرت اللعبة.. حتى هجروا المصنع.
أكمل، شاخصاً ببصره للسقف:
- كانت الرسالة الأخيرة حاسمة، مطبوعة بلون أحمر قاني على واجهة البيت والمصنع:
"أزيلوا الصور".
وهو يجاهد ليخفي انفعاله:
- احترنا في الأمر، أية صور؟.
فجأة.. برق منظر أبي عند احتضاره، يوصينا ونحن ملتفون حوله، بألا نبيع أعمار أجدادانا، ثم أردف بتنهيدة عميقة:
- هو إرثكم الحقيقي.
وأدركنا بأن الجدران متخمة بالذكريات والأوسمة. صورة أخي أبان حرب الإستنزاف، جدي أيام النكبة، ابن عمي في حرب.. أي حرب.. الحقيقة لا أتذكر. فما أكثر الحروب!.
وخالي.. نعم خالي.. علمنا أخيراً بأنه مدفون بمقبرة جماعية بصحراء النقب. كم شقينا لاسترداد رفاته، دون جدوى.
إطارات، وإطارات بأشرطة سوداء، تنطق بما نعجز عن البوح به..
حداد لم يكتمل.. ثم قررنا.. آه..
قررنا مهادنة الريح كي لاتقتلعنا.
رددت في بلاهة، وأنا أضع قدحاً من الشاي أمام صديق الطفولة:
- هل وقف الأمر عند هذا الحد؟.
فترت شفتاه عن شبح ابتسامة، وهو يفرك يديه، شارداً:
- قوافل الغرباء توافدت بعروض سخية للشراء. رفضنا، فانهالت علينا المحاضر والبلاغات، وهددوا أخي الأصغر بالحبس.
ملت برأسي للوراء، ألتقط أنفاسي.
اعتدل في جلسته، وشرع يرتشف قطرات من الشاي، وهو يرمقني مستفسراً:
- هل نعست؟.
- بل أشعر بالخجل.
- ممممما!.
- لاأعرف.
ثم استطرد:
- كانت نذر الشتاء وخيمة، لاتقبل أي مساوامات أو تأجيلات.. البيع أو الإخلاء القسري.
تجمع أهل المنطقة، قدمنا العرائض والشكاوي، وحّدنا الصف في مجابهة عبث الأشباح.
هلّلت في ظفر:
- إذن هكذا فعلتها، وأفلت منهم.
- أبداً.. أنهم سادة كل العصور.
خلع نظارته الطبية لأول مرة، منذ جلوسنا وتحاورنا، فهالني ملامحه وقد تغيرت، كأنه كبر عشرات السنين بغتة، تجاعيد وجهه كحفريات قديمة اندثرت من عصور سحيقة، عيناه كقاع محيط معتم بلا قرار.
حدق في اللاشىء:
- إخوتي.. سافر من سافر، هاجر من هاجر، باع من باع، ولم يتبق أحد سواي.
فترة خفوت، ما لبث أن قطعها بصوت حاد رفيع كالنصل:
- من أنت؟.
- أنا صديقك.
- ومن أنا؟.
- لاأعرف..
- نحن زملاء العنبر.
- زملاء العنبر!!.
- خرجت للتو من المشفى.
- أي مشفى!.
سكون مطبق..
ثم انداحت رائحة نفاذة!.
م. مهاب حسين
مصر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات مميزة

DR. MUJË BUÇPAPAJ - ALBANIA .. Poet Mujë Buçpapaj was born in Tropoja, Albania (1962). He graduated from the branch of Albanian Language and Literature, University of Tirana (1986).

DR. MUJË BUÇPAPAJ - ALBANIA  Poet Mujë Buçpapaj was born in Tropoja, Albania (1962). He graduated from the branch of Albanian Language...

المشاركات الأكثر مشاهدة