Translate

المجموعة القصصية الديك ذو العرف الأبيض للكاتب المصري متولي بصل

 


حفيدة الباشا

       رغم أن الثورة ألغت البشوية؛ والبكوية، إلا أن زوجتي كانت دائما تزعم أنها من أصول تركية؛ وأن جدها الأكبر كان باشا؛ بل كان من كبار باشوات دمياط قبل الثورة؛ كما تقول أن السنانية كلها كانت من أملاك جدها! ولولا الثورة؛ والتأميم لكانت تعيش اليوم في أفخم القصور؟

       كنت أضحك كثيرا؛ وأنا مجبر على الاستماع إليها، ولم أكن أصدق حرفا مما تقول؛ فقد كنت أعرف أسرتها جيدا؛ إنهم جيراننا منذ زمن ٍ؛ ويعيشون في منزل قديم مجاور لمحطة القطار؛ وأهلها بُسطاء، وفقراء جدا، مثل أهلي! والعجيب والمؤسف في نفس الوقت أنها كانت تتمادى كثيرا عندما تقترب ذكرى ثورة 23 يوليو أو ذكرى التأميم؛ فكانت تحوّل البيت إلى جحيم؛ فتحرمنا من فتح التلفاز، وكأننا في سرادق عزاء؛ وترتدي ملابس الحداد السوداء! وبدأ الأولاد يقلدونها بتلقائية؛ فأجد نفسي في هذه الأيام وحيدا شريدا في الشوارع، لا أجرؤ على دخول البيت إلا في ساعة متأخرة من الليل!

       ربما هي مريضة نفسيا؛ أو أنها تعاني من عقدة ما! لكنها رقيقة؛ مرهفة الحس؛ وتحبني؛ وهذا هو كل ما يهمني! حاولت بقدر المستطاع أن أوفر لها كل ما تريد، لكن هذا العِرق التركي العجيب كان يُفسد علينا حياتنا، فمهما فعلت لن أستطيع تحقيق الأحلام التي تتمناها من كان جدها باشا. كنت مثل ثور الساقية، أدور وأعمل ليل نهار دون كلل، ورغم حرصي على تلبية طلباتها الكثيرة، والتي يفوق بعضها حدود دخلي المتواضع، إلا أنني استطعت أن أدخر مبلغا من المال يُمكنني من شراء قطعة أرض صغيرة؛ فقد كنت أطمع أن أصبح يوما من الأعيان أصحاب الأطيان!

       ولأن الأراضي مثل الذهب؛ والمبلغ الذي ادخرته بسيط! لم أجد شيئا يناسبني إلا في منطقة نائية على طريق رأس البر القديم؛ قيراطان - تتوسطهما دار قديمة لا تصلح للسكنى -  سأضع فيهما تحويشة العمر، إنهما يطلان على الطريق مباشرة، ذلك الطريق الذي يقع بين ترعتين، ورغم سفلتته، وإشارات المرور المنتشرة عليه، وأعمدة الإنارة ، إلا أنه لا يكاد يمر أسبوع إلا وتقع حادثة أو أكثر؛ لدرجة أن الأهالي يسمونه طريق الموت، هذا ما عرفته من الناس وأنا جالس في المقهى أنتظر البائع.

       لم يمنعني سماع هذا الكلام، ولا حكايات الموت المريرة التي تفنن الأهالي في قصها عليَّ بعبارات حزينة؛ وعيون دامعة! إنني غريب بينهم؛ وجئت لشراء قيراطين، ومن الطبيعي أن  هؤلاء الناس يريدون بث الذعر في قلبي حتى لا أتمم إجراءات الشراء، هذا ما وقع في قلبي؛ فذهبت مع البائع إلى المحامي؛ وكتبنا العقد؛ وأكد المحامي أنه سيتمم التوثيق في الشهر العقاري في غضون أيام.

       لم أهتم بما قاله لي بعض الأهالي من أن الأرض مسكونة من كثرة الحوادث التي وقعت قريبا منها؛ فقد كان كل ما يشغلني أن أحفظ المبلغ الذي ادخرته؛ وأن أصبح من ذوي الأملاك! اشتريت القيراطين؛ ولم أخبر أحدا من قريب أو بعيد؛ تكتَّمت الأمر خوفا من الحسد ولم أخبر زوجتي خشية أن تطالبني ببيعهما؛ لأشتري لها ذهبا؛ أو غسالة جديدة؛ أو .. .. إلخ!

       ومرَّت الأيام ؛ وحدث ما لم يكن في الحسبان؛ قامت الثورة ( ثورة يناير)  وتوقف كل شيء ! ولأول مرة منذ سنوات أعجز عن دفع إيجار شقتي! وانقلب الرجل الطيب البشوش مالك العمارة إلى وحش لا يرحم! فوجئت به يُحضر لي عصابة من المجرمين؛ لطردي أنا وزوجتي وعيالي؛ إنهم يعرفون أن الشرطة، وكل مؤسسات الدولة مشغولة بالثورة والثوار.

       في ليلة سوداء؛ هجموا علينا؛ وهددونا بالسواطير والسكاكين؛ وبالكلاب المفترسة؛ ورمونا خارج الشقة؛ ولجأت زوجتي إلى أهلها؛ لتبيت عندهم هي والأولاد؛ ولم أجد مكانا أنقل إليه العفش والأثاث إلا تلك الدار القديمة التي تتوسط القيراطين ! ومن شدة التعب والإرهاق نمت وسط كومة الأثاث الذي أصبح حطاما، كان نوما متقطّعا، رأيت فيه أحلاما كثيرة بعدد كل الأحلام التي رأيتها في عمري الماضي كله! رأيت وجوها مخيفة؛ وأشياء عجيبة ورهيبة! ولكنني كنت خائر القوى؛ ومنهكا بطريقة لا أستطيع معها الوقوف على قدمي َّ! فقط كنت أفتح عيني َّ بصعوبة؛ ثم أغمضهما بسرعة!كنت أحاول أن أميز تلك الوجوه الكثيرة التي تتشكل من دخان ثم تختفي ثم تعود فتتشكل من جديد؛ وكان أحدها يصيح بصوت رهيب، والآخرون يصرخون صرخات مدوية

-         لا تتركوه ينام! أحرقوه بالنار حتى لا ينام!

وكنت بالفعل أشعر باحتراق أجزاء من جسدي؛ لدرجة أنني شممت رائحة جلدي وهو يحترق، لكنني لم أستطع النهوض، ولم أستيقظ إلا في اليوم التالي؛ وبعد أن انتصف النهار، عرفت ذلك من آشعة الشمس التي كانت تتسلل من الخروق والشقوق الكثيرة  المنتشرة في السقف والجدران؛ قمت وقلبي يكاد يتوقف من الرعب الذي أصابه؛ وومررت بيدي على جسدي؛ لأتأكد من هذه الحروق؛ فلم أجد أي أثر لما كنت أشعر به؛ ولم أجد أثرا لأي شخص في الدار!   قلت بصوت مسموع وكأنما أكلم نفسي:

-         ربما كل هذا مجرد كوابيس بسبب الرعب الذي أصابني أنا وزوجتي وأولادي من المجرمين الذين طردونا من شقتنا بالأمس!

         حزنت على الأثاث الذي تحطم، وبكيت وأنا أنظر إلى حياتي وقد تحولت إلى ركام، ولو كنت أعلم ما سيصيبنا لتركنا لهم الشقة؛ ونجونا بأنفسنا وبالمتاع والأثاث. انتبهت إلى أن الدار قديمة؛ والسقف متهالك؛ والجدران متآكلة؛ والأرضية قد نخر السوس ألواح الخشب التي تبطنها، كما أن فيها حفر استوطنتها الجرذان والحشرات؛ تساءلت بصوت مسموع؛ عسى صوتي يبعد عني شبح الوحدة المميتة :

-         كيف سأعيش أنا وزوجتي وأولادي في هذا المكان الذي لا يصلح لكي يكون قبرا؟!

فكرت في أن أقوم بعملية ترميم سريعة؛ فأشتري مترا أو مترين من الرمل؛ وبضع شكائر من الأسمنت؛ وأسد بنفسي تلك الخروق والشقوق؛ وأُسَفلت الأرضية بالأسمنت؛ ثم أحضر أحدا يقوم بمحارة السقف والجدران، ولكن قبل أي شيء كان علي َّ أولا  أن أنزع كل هذه الألواح المسوسة من الأرضية؛ فمن المؤكد أن تحتها جيوشا من الحشرات والجرذان! وبالفعل بدأت في ذلك، كنت حريصا على نزع كل الألواح قبل حلول الليل؛ فلم أكن مستعدا للمبيت وحدي في هذا المكان مرة أخرى؛ ولو اقتضى الأمر سأبيت في محطة القطار القريبة.

       غرقت في عَرَقي؛ وملأ التراب أنفي ورئتي َّ؛ ولم أعد أرى من ملوحة العرق الذي يتصبب من جبهتي ويسيل ويملأ عيني ! ذهبت إلى الحمام؛ وغسلت وجهي؛ ثم خرجت لاستنشاق بعض الهواء النقي؛ أشجار الجوافة، والتوت، ونخيل البلح في كل مكان؛ عليها أطايب الثمر؛ قطفت منها؛ وأكلت حتى شبعت. المنظر الجميل حولي جعلني أشعر ببعض الراحة والسكينة؛ واندهشت من نفسي كيف لم أكلف أحدا من الفلاحين بجني كل هذا الخير طيلة السنوات الماضية! كمية كبيرة من ثمار الجوافة والتوت والبلح كانت تذهب سدى؛ أو ربما في الجوار من كان يسرقها! عدت من جديد إلى الداخل، لكن هذه المرة كنت أكثر حماسا وأوفر قوة؛ فأخذت أنزع ما تبقى من الألواح، وبينما كنت أقوم بذلك شعرت بشيء يتكسَّر تحت قدمي؛ وعندما انحنيت لاكتشاف الأمر؛ فوجئت بوعاء كبير من الفخار؛ يشبه تماما ذلك البلاص الذي تحمله الفلاحات في الأفلام القديمة! كان مدفونا في الأرض تحت الألواح الخشبية، وفي داخله لمحت بريقاشد انتباهي؛ ولم أصدق عينيَّ وأنا أرىكومة ضخمة من القطع الذهبية والمجوهراتترقد في بطن هذا البلاص!

       لم تستقر الأحوال بعد في البلد، الثورة طحنت الكثير من الناس، ولا تزال تحطم عظام البقية؛ والكساد الذي أصاب الجميع بالإفلاس؛ جعلهم يشعرون أنهم على أعتاب مجاعة ! لقد سقطت أسماء كبيرة؛ واختفت وجوه كثيرة؛ وظهرت وجوه جديدة لم يسمع عنها أحد من قبل! خرجت من تحت الأرض ؛ وفي وقت قصير ظهرت على هذه الوجوه علامات الثراء الفاحش!            في غفلة من أجهزة الدولة التي أنهكتها الثورة؛ انتفخت كروش  اصحاب الأعمال المشبوهة مثل تجار المخدرات والسلاح والآثار وانتشرت عمليات الخطف والسرقة ؛ .. .. إلخ

       ورغم أنفي أصبحت واحدا من هؤلاء الذين ظهرت عليهم آثار النعيم دون سابق إنذار؛ وكنت أسمع من حولي يتهامسون، وهم في حيرة شديدة من هذا الثراء، والنعيم المفاجئ الذي أصبحت أعيش فيه أنا وزوجتي وأولادي؛ الجميع يعتقدون أنني أتاجر في آثار بلدي! لم يخطر على بال أحدهم قط أن الأرض المسكونة بالعفاريت كان مدفونا في بطنها كل هذه الكمية من الذهب والحلي ؛ والتي تُقدَّر بالملايين!

       بمرور الوقت بدأ الناس يطلقون علي لقب الباشا! ولا ينادون زوجتي إلا ويسبقون اسمها بكلمة ( هانم ) لدرجة أنني بدأت أصدق أنها بالفعل حفيدة باشا؛ وربما تكون هذه الثروة ملكا لجدها الأكبر الذي هرب من مصر أيام التأميم؛ ولكنه لم يتمكن من تهريب هذه الثروة معه؛ فدفنها في هذا المكان !.

دمياط

24  / 7 /  2021 م 

 

لعبة الشيطان

       تقابلا أمام مكتب السعادة لأعمال السمسرة؛ أحدهما ذو لحية؛ مستدير الوجه؛ تتوسط جبهته البيضاء زبيبة سمراء؛ والآخر حليق؛ على رقبته ندبة غائرة؛ يبدو متوترا؛ ويتلفت حوله كثيرا؛ وكأنه يخشى أن يراه أحد! همس الأول قائلا:

-  اهدأ يا أخي حتى لا تلفت الأنظار إلينا!

-  لو رآني أحد؛ ستسوء سمعتي؛ اللعنة على النساء، فهن سبب كل بلاء!

-  يا أستاذ شوقي نحن لا نسرق،  تمالك  نفسك، الموضوع سهل جدا.

 - صدقني يا إبراهيم أنا أحاول أن أكون هادئا مثلك، لكن قلبي تتزايد دقاته حتى أصبحت أسمع صوتها، أشعر أنه سينفجر من شدة التوتر والقلق..

-  هذا لأنها المرة الأولى لك ؛ المرة الأولى دائما تكون الأصعب .

-  أفهم من كلامك أنك جئت هنا من قبل!

 - لا، لا يا أستاذ شوقي إنها المرة الأولى لي، ولكنني مؤمن أنه لن يصيبك إلا نصيبك.

 - هاها! مؤمن .. أتينا لارتكاب جريمة، وتتحدث عن الإيمان!

-  يا أخي اخفض صوتك، ما هذا الكلام الذي تقوله ألم نتفق على أن الضرورات تبيح المحظورات؟!

من وراء الباب الزجاجي ظهر شخص مسن؛ فتح الباب من الداخل؛ ثم عاد وجلس أمام المكتب؛ فدخل الاثنان؛ وأغلقا الباب خلفهما؛ قال إبراهيم مبتسما:

 - يا صباح الهنا والسرور يا عم أحمد يا ملك السعادة!

-  طلبات الأساتذة.. عندي شقق؛ وعشش؛ بدروم؛ جراج ..

مال إبراهيم ناحيته حتى كاد فمه يلامس أذن السمسار؛ وهمس قائلا:

-  طلباتنا .. أبو الزغاليل كلمك ؛ وعرفك طلباتنا

هز السمسار رأسه،، وقال متعجبا وهو يدقق النظر فيهما:

-  أبو الزغاليل! أنتما من طرف أبو الزغاليل! لكني لم أتشرف برؤية وجهيكما من قبل!

رد شوقي والذي كان صامتا؛ وقال:

-  لأنها أول مرة .. واحتمال تكون آخر مرة ؛ ممكن حضرتك تخلصنا!

اندهش إبراهيم من تسرع صاحبه شوقي، بينما قال السمسار بنبرة ساخرة:

 - يا أستاذ الشغل له أصول؛ وحضراتكم أول مرة تشرفوني؛ وضروري أتأكد من شخصية كل واحد منكما ، الموضوع ليس سلق بيض!

قال إبراهيم في محاولة منه لتهدئة الجو:

-  طبعا.. طبعا يا ملك؛ اتفضل أبو الزغاليل قال إننا نصور البطاقة؛ ونقدم لك صورة، اتفضل صورة بطاقتي!

-  وصورة بطاقته ؟!

السلام ناحية شوقي؛ الذي قام من مكانه كأنما لدغته أفعى؛ وصاح مستنكرا:

-  صورة البطاقة!! ناقص تطلب مني أكتب طلب وألصق فوقه ورقة دمغة!

-  واضح إنك ابن نكتة، وتحب الفرفشة!

 - ابن نكتة؟!

قام شوقي؛ وخرج فتبعه إبراهيم، قال الأول غاضبا:

- مستحيل أقدم له صورة بطاقتي، أكيد يريدها لابتزازنا فيما بعد، لا لن أضع نفسي تحت ضرس شخص لا أعرفه!

-  يا أستاذ شوقي هو فقط يريد أن يتأكد من شخصياتنا، فما أدراه أننا لسنا بوليس أو مباحث آداب، أبو الزغاليل أخبرني إنه سيطلب صورة البطاقة الشخصية الموضوع سهل وبسيط، اخز الشيطان يا أستاذ وتعالى ننهي الموضوع؛ ونرجع دمياط لأعمالنا وأشغالنا!

 - أخزي الشيطان! تصدق يا إبراهيم إنك نوع غريب من البشر!

-  أتسخر مني يا أستاذ شوقي، والله العظيم أنا كل من يعرفني يناديني ( يا شيخ إبراهيم) من حبي للدين، وحرصي على الصلاة والصوم، ولما تزوجت؛ تزوجت ابنة إمام المسجد ، ولولا مرضها العجيب ما كنت رضيت أن أكون في هذا الموقف الذي لا أحسد عليه!

 - لا تؤاخذني يا شيخ إبراهيم، أنا أعرف ظروفك .. يا أخي الحال عندي كما عندك، وأنت إنسان طيب ومحترم، ولو ثقتي فيك ما حكيت لك قصتي ومشكلتي، ولا كنت وافقتك ومشيت وراءك، لكن قلبي لا يطاوعني على ارتكاب هذه الجريمة!

 - أفهم من كلامك أنك لم تطلق زوجتك!

 - الحقيقة لا، لم أطلقها .. لم أستطع.

-  لم تستطع! لكن أنا طلقت زوجتي، ليتني لم أطلقها؛ الدنيا كلها انهدت فوق رأسي بمجرد أن طلقتها .

 - يا أخي اسمعني، زوجتي مريضة جدا، ولو طلقتها في هذه الظروف ممكن تموت، مجرد ما افتعلت معها مشكلة حتى أمهد لأرمي عليها يمين الطلاق وقعت على الأرض وفقدت الوعي، يا أخي أنا قررت أفعل هذا الأمر دون أن أطلقها، وربك غفور رحيم أكيد سيغفر لي!

-  زوجتي أيضا مريضة، ولم تحتمل الصدمة وأغمي عليها بمجرد أن طلقتها؛ ولسوء حظي أهلها كانوا أمام باب الشقة اختاروا هذا الوقت لزيارتنا؛ وابني الصغير فتح لهم؛ ودارت معركة بيني وبين أبيها الذي لم يحتمل رؤية ابنته في هذه الحالة؛ ودون قصد فتحت له حاجبه؛ والدم غرق وجهه؛ والموضوع كبر ووصل للشرطة؛ الرجل قدم بلاغ إني ضربت زوجتي وضربته!

-  ياه! الله يكون في عونك، أنت رميت نفسك في مصيبة، يا أخي كنت خنها، واستغفر ربنا بعدها، إنما تقول لازم تطلقها حتى تكون عقوبة الزنا أخف، لأنك لو زنيت وأنت متزوج العقوبة الشرعية الرجم حتى الموت، أما لما تطلقها تصبح العقوبة جلد فقط، ثم بعد ذلك ترد زوجتك .. بصراحة تفكيرك عجيب جدا!

 - عندك حق، أتعرف ما هي التهمة التي اتهمني بها حماي العزيز؟!

-  إنك ضربته، وفتحت له حاجبه!

- ها ها .. أولاد الحلال أخبروني أن محامي قريبه نصحه أن يدعي أنني أنتمي لجماعة متطرفة هدفها قلب نظام الحكم؛ وأنه هو وابنته كانا يحاولان إقناعي بالابتعاد عن هذا الطريق المظلم؛ فما كان مني إلا أن اعتديت عليهما بالسب والضرب المبرح!

- معقول؟!

- كان أملي أحل مشكلة، وقعت نفسي في مصيبة كبيرة!

- لا، لا توجد أي مصيبة، بمجرد أن ترد زوجتك، وتعتذر لحماك ستنتهي كل المشاكل!

- الخلاصة.. ممكن نرجع لعم أحمد؛ ونخلص الموضوع!

- لا ، يا شيخ إبراهيم الموضوع لا يحتاج واسطة ولا سمسار، بائعات الهوى في كل مكان.

- بصراحة أنا مندهش من تحولك المفاجئ، كنت خائفا وأعصابك متوترة، والآن – بسم الله ما شاء الله- تتكلم وكأنك خبرة في هذه الأمور!

- انظر ناحية اليسار، وستعرف السبب!

حيث أشار كانت قد جلست امرأتان بارعتا الجمال بملابس شفافة تظهر من مفاتنهما أكثر مما تخفي، سأل إبراهيم صاحبه

- تفتكر ..

- طبعا، ألا ترى ملابسهما، والماكياج، وطريقة الكلام، كل شيء يقول أنهما من فتيات المتعة!

- وكيف نتأكد؟!

- ندفع لهما حساب الطلبات،  ونرى رد فعلهما.

- معقول، لا أصدق أنك أنت نفسك الأستاذ شوقي الرجل المحترم!

- انجز يا محترم قبل ما الزغاليل تطير!

بعد قليل خرج الرجلان، وقد تأبط كل منهما ذراع إحدى المرأتين، ولم يصدق أي واحد منهما نفسه عندما أخبرتهما المرأتان أن عندهما شقة قريبة من السوق؛ فغمز شوقي لصاحبه، وقال هامسا:

- أرزاق يا عم إبراهيم يا حلاق، عروسة بشقة!

- بالمناسبة- ونحن نسير في الشارع – ألا تخشى من أن يراك أحد، وفي يدك هذه الجميلة؟!

- بصراحة أنا الآن أخاف .. لكن من الحسد!

لم يخطر على بال أي منهما أن الشيطان نفسه ينتظرهما في هذه الشقة التي سيدخلانها بعد قليل؛ فبمجرد احتسائهما كأسين فقط فقدا الوعي؛ ثم تحولت الشقة بسرعة إلى ما يشبه غرفة العمليات الموجودة في المستشفى! أجهزة طبية؛ وشاش؛ وقطن! واختفت المرأتان؛ وظهر أربعة أشخاص بثياب بيضاء وكمامات وقفازات طبية! نظر أحدهم في ساعته، ثم قال منبها زملاءه:

- قبل أن نفتح أريدكم أن تتأكدوا من أن مبردات صناديق الحفظ تعمل جيدا، لا أريد أن يفسد أي عضو كما حدث في المرة السابقة.

كان كل من شوقي وإبراهيم في غيبوبة كاملة؛ وجسد كل منهما ممدد فوق منضدة طويلة، وهو شبه عار، وقبل أن يلمس المشرط جسد إبراهيم؛ فوجئ الجميع بجلبة كبيرة أمام باب

الشقة الذي انفتح جراء دفع رجال الشرطة؛ الذين انتشروا بسرعة في كل مكان داخل الشقة؛ وقبضوا على كل من فيها، أما شوقي وإبراهيم فتم نقلهما بسيارة إسعاف إلى مستشفى رأس البر.

نجا الرجلان من موت محقق، ومن سرقة أعضائهما، لكن فضيحة مدوية كانت في انتظارهما!.

25  /  7  2021 م

دمياط

 

 

عفريت الشيخ حسن

       صف طويل من السيارات التي تقف محاذية لرصيف الساحة، ولا يوجد مكان في ذلك الوقت لسيارة جديدة؛ لا يوجد إلا مكان واحد قريب من باب الساحة؛ ولكن لا يجرؤ أي شخص - مهما كان منصبه أو مركزه – على أن يركن سيارته فيه! فالجميع يعلمون أنه مخصص لسيارة الكابتن؛ نجم دمياط المغمور في كرة القدم؛ والحريف الذي استحق عن جدارة لقب " بيبو بيبو " ؛ والذي لولا شغفه بالخطابة، وحبه للمنابر؛ لأصبح منذ زمن ٍ نجما لامعا من نجوم الأهلي أو الزمالك! ورغم أنه تجاوز الخمسين منذ أيام؛ إلا أنه لا يزال يحرص على المشاركة في المباريات، ولا سيما تلك التي تكون ضمن مسابقة؛ مثل الدورة الرمضانية، ودائما يفوز فريقه، بفضل مهاراته العالية في تمرير، وتصويب الكرة على مرمى المنافس؛ حتى أطلق الجمهور على فريقه اسم ( شياطين الساحة )؛ واعترض هو على كلمة ( شياطين ) فأصبح اسم الفريق ( نجوم الساحة ).

       ومن الحوادث الطريفة التي يتناقلها رواد الساحة، ويتندرون بها، أن رجلا تعمَّد أن يركن سيارته في مكان سيارة الكابتن؛ وكان ضمن الفريق المنافس الذي سيلعب ـ هذه الليلة ـ ضد فريق النجوم ؛ وفوجئ الجميع بالكابتن يقوم بترقيص ذلك الرجل؛ ويمرر الكرة من بين رجليه أكثر من مرة، وكأنه يتعمد إهانته وإذلاله أمام الجميع! وانتهت المباراة بفوز فريق النجوم كالمعتاد؛ لتعقبها مباراة أخرى من التوبيخ والاستنكار الذي تحول شيئا فشيئا إلى عتاب؛ انتهى بعقد ميثاق صداقة بين الاثنين! وتبين بعد ذلك أن الرجل يشغل منصب مستشار رفيع المستوى؛ ومع ذلك لم يركن سيارته مرة أخرى في مكان سيارة الكابتن.

       بوجهه البشوش، وأسلوبه المهذب الجميل استطاع أن يغرس حبه في قلوب كل من يعرفه، ليس في الساحة فقط؛ ولكن في مكان عمله أيضا في لجنة الفتوى، فاشتهر بين زملائه من المشايخ بعلمه، وأدبه، وأخلاقه؛ حتى إنهم كانوا يقدمونه عليهم؛ في إمامة الناس، وإلقاء خطبة الجمعة في مسجد المجمع الديني الأزهري.

       وبين الساحة التي يناديه فيها مشجعوه بالكابتن؛ ومكتب الفتوى، والمسجد اللذان يناديه فيهما مريدوه بالشيخ حسن؛ لم يشعر يوما بأي اختلاف أو تضارب؛ فالرياضة تنمي الأخلاق؛ والدين يدعو إلى مكارم الأخلاق. لكن يبدو أن دوام الحال من المحال؛ ففي إحدى ليالي الشتاء الباردة، وفي وقت متأخر من الليل؛كان يمشي في أحد شوارع الأعصر؛ وكانت قد خلت من المارة؛ وأمام أحد المقاهي الشعبية سمع صوتا يناديه:

-         يا نجم! يا كابتن  .. يا كابتن حسن!

-         معالي المستشار!!

-         ماشي على رجليك ليه ، فين عربيتك؟!

-         حضرتك عارف إن المشي رياضة؛ المشي نعمة كبيرة ناس كتير محرومين منها.

-         تمام يا كابتن، بس بعد منتصف الليل، مش معقول يعني!

-         هاها .. الحقيقة مش عارف أقول لك إيه !

-         تقول! قبل ما تقول أي شئ تعالى لاعبني دور شطرنج!

-         شطرنج ! لا.. لا،  دي اللعبة الوحيدة اللي عمري ما حاولتش أتعلمها .

-         جميل جدا، يبقى تعالى أعلمك ؛ عشان ألاعبك وأغلبك مرة من نفسي .. هاها !

جذبه من يده برفق؛ ودخلا معا المقهى؛ كان معه صديق له يجلس أمام رقعة الشطرنج، سأل الكابتن صديقه المستشار متعجبا:

-         سعادتك بتقعد في المقهى؛ وتلعب شطرنج كده عادي ؟!

-         الحقيقة، مش عادي طبعا؛ لكن الشطرنج لعبتي المفضلة، وكل ما يظهر فيه نجم جديد؛ أتحداه وأغلبه ( وهو يشير إلى صديقه الآخر ) الأستاذ أيمن نجم نجوم الشطرنج في دمياط ؛ نمبر وان بقالي ساعتين ولسه ما قدرتش أهزمه!

صافح الكابتن حسن الأستاذ أيمن، ثم قال للمستشار بخبث:

-         يا ترى بتغلبهم صحيح، ولا قاصدين يتغلبوا منك يا سيادة المستشار، انت عارفني اللي في قلبي على لساني!

-         يا صديقي العزيز الشطرنج لعبة الملوك والنبلاء؛ ولا يوجد أي لاعب شطرنج يقبل أو يرضى بالهزيمة؛ إلا إذا كان المنافس بالفعل يستحق الفوز، الشطرنج لعبة لا تعرف النفاق والمنافقين.

-         معقول الكلام ده شوقتني أتعلمها!

-         تحت أمرك، لكن قل لي بكل صراحة مالك، بقى لك فترة متغير ؟!

-         مش عارف أقول لك إيه، أنا في مشكلة كبيرة جدا، ومش لاقي لها حل!

-         مشكلة كبيرة! مشكلة فلوس؟!

-         لا ، لا .. مشكلة ضمير!

-         ضمير؟! وضَّح كلامك يا كابتن!

-         حضرتك عارف إني عضو في الساحة من سنين، وحياتي كلها في لعب الكورة!

-         تمام، وهو فيه حد غلبني وذلني غيرك!

-         لسه شايلها في قلبك؟

-         لا ، أنا بحاول أضحكك، صعبان عليَّ أشوف صديقي العزيز حزين ومهموم كده، إضحك يا أخي، وانسى الهم ينساك!

-         أضحك ازاي، وأنا حياتي كلها أصبحت على كف عفريت؟!

-         يا ساتر للدرجة دي ، احكي لي يمكن أقدر أحل المشكلة !

-         يا ريت !

-         إيه هي المشكلة؟!

-         باختصار أنا أعمل موظفا في لجنة الفتوى، يعني شيخ من مشايخ المجمع الديني الأزهري، وأحد الناس من أصحاب القلوب الضعيفة والمريضة صورني بالموبايل، وأنا في ماتش؛ وأرسل الفيديو للوزارة، وهو يستنكر إن شيخ يرتدي شورت وفانلة ويلعب كورة؛ فما كان من منهم إلا أن أوقفوني عن العمل؛ وحولوني للتحقيق بتهمة تشويه الصورة العامة ؛ والإساءة لآداب وظيفتي!

-         تعرف إني أعاني من نفس المشكلة التي تعاني منها، واحتمال كبير يحصل معايا نفس اللي حصل لك، انت عارف يا كابتن إني مستشار، ومهم جدا أحافظ على  الشكل العام لمركزي الوظيفي، ولا أضع نفسي في مكان أو موقف يشوه هذا الشكل؛ يعني وجودي هنا في مقهى شعبي بهذه الصورة يتنافى مع الآداب والصورة اللائقة لوظيفتي كمستشار.

-         صحيح لكن ظروفك تختلف عن ظروفي، أنت ممكن تلعب الشطرنج في كازينو أو نادي راقي مثل نادي المستشارين، وتستغنى عن المقاهي الشعبية!

-         للأسف يا كابتن هذا الكلام غير صحيح، تعرف ليه؟ لأن غالبية لاعبي الشطرنج المحترفين والموهوبين من رواد هذه المقاهي، يا كابتن الحارة المصرية هي الأصل، منجم ومنبع كل المواهب.

وضع عامل المقهى كأسا من الليمون أمام الكابتن، كان المستشار قد أشار له بإعداده، بينما كان كل من  المستشار والأستاذ أيمن  - الذي كان يناوره بمهارة فوق رقعة الشطرنج – يحتسي فنجانا من القهوة، شارك الأستاذ أيمن في الحوار فقال موجها كلامه للكابتن:

-         سامحني يا كابتن حسن أو يا شيخ حسن لأن الكلام الذي سأقوله ربما لا يعجبك، لكن ضروري أنبهك بحكم معرفتنا التي بدأت من دقايق!

-         والله إذا كان ها يزعلني بلاش .. حقيقي يا أستاذ أيمن أنا في صدمة كبيرة.

-         عشان كده لازم أكلمك بكل صراحة، أي شخص يرتدى الجبة والقفطان؛ ويختار إنه يكون شيخ وإمام للناس؛ يبقى رضي إنه يكون قدوة، وعليه يتحمل نتيجة اختياره؛ وطبيعي جدا إن الناس لا يتقبلوا رؤيته بالشورت والفانلة، ممكن الكلام ده يقبلوه من لاعب كورة، لكن من شيخ ، فصعب جدا ويمكن مستحيل؛ وحضرتك كان واجب عليك ـ من بدري ـ تختار بين إنك تكون شيخ، أو تكون كابتن ولاعب كورة، لأن الجمع بينهما أعتقد يعني ..

-         يعني إيه .. حرام ؟!

-         لا مش حرام ، وحضرتك تعرف الكلام ده أكثر مني ، بس صعب الناس تتقبله مش في مجتمعنا الشرقي فقط، ده في كل المجتمعات تقريبا!

تدخَّل المستشار، وقال ليطمئن الكابتن :

-         يا كابتن مشكلتك محلولة، اعتبر إن تم حلها، لكن زي ما قال الأستاذ أيمن لازم تختار حاجة من الاتنين، وزي المثل ما بيقول ( الباب اللي تجيلك منه الريح؛ سده واستريح. )

-         ما أقدرش أستغنى عن الكورة، ولا عن وظيفتي وعملي اللي بحبه، بصراحة الاتنين عندي ـ ولله المثل الأعلى ـ زي الصلاة والزكاة، ينفع نفرق بينهم؟!

-         حيرتنا معاك يا كابتن، أنا كنت هاعمل اتصالات بحيث تنتهي المشكلة؛ وترجع شغلك، لكن قبل رجوعك الشغل، لازم نقفل الثغرة دي، وننهي نقطة الضعف اللي أخدوها ذريعة لإيقافك عن العمل.

قال الأستاذ أيمن موجها كلامه للمستشار:

-         أنا عندي حل، بس حل مجنون .. أقوله ؟!

-         يمكن يكون فعلا هو الحل!

-         ممكن حضرتك بمركزك وعلاقاتك واتصالاتك، تعمل له بطاقتين، وكأنه شخصين، أو أخين توأم، واحدة الكابتن حسن، والتانية الشيخ حسن .. هاها ، فكرة مجنونة مش كده؟!

ضحك المستشار، والكابتن، فلم يكن أحدهما يتوقع مثل هذا الاقتراح العجيب! ورغم أنه كان جنونيا فعلا إلا أنهما اتفقا على تنفيذه!

       بعد أسبوعين تقريبا صدرت بطاقة جديدة للكابتن الذي أصبح يحمل بطاقتين؛ وانتهت المشكلة؛ وعاد الشيخ حسن إلى عمله؛ ليكمل رسالته في لجنة الإفتاء؛ وفي مسجد المجمع؛ وفي المساء يرتدي الشورت والفانلة؛ ويمارس هوايته في إحراز الأهداف؛ وهزيمة المنافسين والخصوم.

       استطاع الكابتن أن يقنع المستشار بتغيير بعض بيانات البطاقة الأخرى؛ حتى لا يتم اكتشاف اللعبة؛ فأصبح في البطاقة الجديدة أعزبا؛ رغم أنه متزوج ، ويعول! وبعد شهر فقط كان الكابتن حسن في إحدى قرى المنزلة؛ يعقد قرانه على فتاة تصغره بنحو عشرين عاما؛ وكان الأستاذ أيمن أحد شاهدي عقد الزواج، وقد حرص الاثنان كل الحرص على ألا يعلم المستشار بأمر هذه الزيجة.

دمياط

27   /   7   /   2021   م

 

 

 

 

 

 

 

 

الصندوق .. الملعون !

     عندما عثر على ذلك الهاتف ، تركه مفتوحا عسى أن يتصل  صاحبه ، فيعرف مكانه ، ويرده إليه .

     يبدو غالي َ الثمن ، يغري أي شخص ٍ باقتنائه ، ومع ذلك لم يطمع فيه ، بل إنه لم يحاول أن ينظر في الأرقام أو الصور والملفات الموجودة  داخل الجهاز ، فقد كان يعتبر ذلك خيانة للأمانة !

     لم ينتظر طويلا ، اتصل به صاحب الهاتف ، وطلب منه أن يحضره إليه ، وسوف يكافئه ! فرح كثيرا عندما سمع هذه الكلمة ، لكنه قرر ألا يأخذ إلا ثمن المواصلات فقط !

     عندما نزل من الميكروباص ، سأل عن منزل الرجل ، وكان قد أخبره باسمه ، لكنه فوجئ  بمن يسأله ، يقول له متعجبا : -  أستغفر الله العظيم .. في عز الظهر ، والدنيا حر .. نار .. نار تحرقك يا ملعون ! اذهب بعيدا .. اذهب قلت لك أيها الشاب الفاسق !

     جرى الشاب ُ من أمامه ، وهو لا يستطيع أن يستوعب ما حدث ، ماذا فعل حتى يشتمه ويلعنه ؟! ثم قال في نفسه " ربما يكون مجنونا  ! " ومضى وهو  يضرب كفا بكف ، ثم سأل شخصا آخر ، فوجده يرد عليه بازدراء  قائلا  : - من يراك َ يظنك ملاكا ! الله يخرب بيتك .. .. في عز النهار .. ألا تخجل من نفسك .. ألا تستحي ؟!

     ورفع  الرجل عكازه ، وهم َّ بأن يضربه ، ففر من أمامه مذهولا ، وهو لا يعرف ما الذي جعل الرجل يغضب منه بهذه الطريقة ، وجعله يهاجمه بتلك الوحشية ؟!

     رن الهاتف ، سمع صوت صاحبه يقول له : - أنا أراك من البلكونة ، انظر للأعلى !

فنظر إلى أعلى فرآه يشير إليه بالصعود .

     في حجرة الصالون ، تسلل القلق إلى قلبه من الصور الخليعة ، واللوحات الماجنة ، المعلقة على الحائط ، وضع الهاتف على المنضدة ، و قام مستأذنا في الانصراف، فضحك صاحب الهاتف ، و قال : - تمشي .. تنصرف هكذا بكل سهولة ، قبل أن تأخذ مكافأتك !

-       مكافأة .. لا .. لا .. أنا لا أريد أي مكافأة .. أشكرك

-       ها ها ها .. .. انتظر حتى تراها .. لقد قدمت إلي َّ معروفا لا يُنسى .. وأنا سأقدم لك مكافأة لن تنساها طول عمرك

-       أشكرك .. لكنني لن آخذ أي مقابل ، كنت أريد أن أعيد إليك هاتفك فقط .. ..

قاطعه قائلا : - هل تعرف كم يساوي ؟!

-       أعرف أنه غالي الثمن !

-        أغلى مما تتصوَّر .. لا أقصد ثمنه ، إنما أقصد ثمن الأرقام والصور الموجودة فيه ، هذا الهاتف عبارة عن صندوق أسود ، ولو كان وقع في يد شخص آخر ، كانت وقعت كارثة .. لا ، بل كوارث وفضائح .. .. بيوت كثيرة كانت ستتحول إلى خراب !

     قطع حديثهما صوت باب الشقة ، وهو ينفتح ، فوجئ بفتاة تدخل عليهما ، تخشب في مكانه ، واتسعت حدقتا عينيه عندما سمع صاحب الهاتف يقول له

-       هذه هي مكافأتك .. ما رأيك .. ألا تريدها ؟!

لم يكن يصدق ما تراه عيناه ، فقد كانت تشبه ملكات الجمال التي لا يراها إلا على شاشة التلفاز ، لو رآها في مكان ٍ آخر بملامح وجهها هذه لخدعته براءتها الكاذبة ، يا للعجب ! كيف يجتمع كل هذا الجمال و كل هذه القذارة  ؟!

     مرق كالسهم من بينهما ، لكنه وهو يفتح الباب علق طرف قميصه في المزلاج فتمزق ، تذكر وهو ينزل الدرج كالبرق – صورة  " محفوظ عبد الدايم " ! لو كان يعلم أن صاحب الهاتف قوادا لأحرقه إحراقا .

 

7  /  9  /  2019  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قميص السعادة !

       لم أنم ليلة البارحة ، رغم أن امتحان اليوم سيكون الأصعب ! فمسائل الجبر بالنسبة لي كالدواء المر ! واستيقظت و أنا لم أزل متوتر الأعصاب ، ليس خوفا من الامتحان ، ولكن بسبب استفزاز زميلي " مروان " بالأمس ! فقد أحرجني أمام الجميع وهو يتفاخر بالقميص التركي الفاخر الذي اشتراه له أبوه ، بينما كان يلمّح إلي قميصي المهترئ ! أجبرت دموعي أبي على أن يشتري لي قميصا جديدا ، ارتديته اليوم رغم إلحاح أمي على أن أتركه ليوم العيد ، وأنا في طريقي إلى المدرسة كنت أشعر أنني أطير بجناحين فوق السحاب ! رغم أن الطريق كان ترابيا وبه  الكثير من الحفر! وبالقرب من البيارة سمعت صدى صوت كأنه استغاثة ، فهرعت نحوها ، ونظرت داخلها فقد كانت بدون غطاء ! فإذا به يصارع الموت غرقا في مياه الصرف الصحي ، وقد طفا قميصه التركي الفاخر فوق رأسه حتى كاد يكتم أنفاسه ! لم أتردد لحظة وخلعت قميصي الجديد وأدليت طرفه ليتشبث به ، كافحت حتى أخرجته حيا، ثم جلست إلى جواره أبكي ليس على القميص ، ولكن من شدة فرحي لأنني استطعت إنقاذه ، شعور هائل غمرني ، وهز كياني بشدة ، كأنني أنا الذي نجوت من الموت في تلك البيارة !          1 / 8 / 2019  

العقد و الطوق

     كانت في طريقها لحضور حفل زفاف إحدى صديقاتها , وهي ترتدي فستان السهرة الذي اختلسته في تلك الليلة من محل الملابس الذي تعمل فيه , وفي  يدها منديل ٌ حريري ٌجميل   الفستان  بديع  ورائع , ذو  تصميم  راقي , يخطف الأبصار , و يخلب العقول , جعل  طابورا من الشباب المتعطشين  للجمال يسير خلفها في انبهار , وهي لا تشعر بهم ! .

     كانت وهي تسير تحلم بفتى الأحلام الذي تأمل أن تجده في ذلك الحفل , وتوقعه  في شباك غرامها , إنها لن تفرط فيه أبدا , لن تضيّع هذه الفرصة , مهما حدث ! فقد عانت طوال حياتها ما لم يعانيه أحد , و شربت من كؤوس  التعب والشقاء  , وآن لها أن تهنأ و ترتاح .

     فجأة .. وقعت عيناها عليه , فتوقفت , إنه أمامها في محل الذهب ,لم تستطع أن تقاوم جاذبيته , وقفت أمامه مسحورة  بجماله , أخذت تتأمله بشغف بالغ , ودقات قلبها تتسارع وكأنها في مارثون , أنفاسها المتلاحقة لفحت زجاج المحل , فرانت عليه طبقة رقيقة من ندى هذه الأنفاس المغرمة , مدّت يدها لتمسح الزجاج بأناملها الناعمة حتى تستطيع رؤية ذلك الحبيب الذي وقعت في غرامه من أول نظرة , إنه يناسبها تماما , لم تتمن ّ أفضل منه ! مرّرت يدها على رقبتها , تمنت لو تستطيع اختلاسه هو الآخر ولو لليلة واحدة , هذه الليلة فقط , أغمضت عينيها وتخيلت نفسها وهي تزين به رقبتها , كانت تشعر أنها بهذا العقد وهذا الفستان ستصبح ملكة الحفل ! .

     انتبهت من حلمها الجميل الذي لم يكتمل , على صفير أحد المعجبين , التفتت نحو الصوت لمحت يدا ً تمتد لتمسك بأطراف أصابعها , حركة جريئة جدا , لكنها لم تتفاجأ , ولم تتسلل إليها ذرة ُ خوف واحدة , بل على عكس المتوقع سارعت هي وأمسكت تلك اليد الجريئة , بُهت الشاب , وحاول أن يرسم على وجهه ابتسامة , سُرعان ما تحوّلت إلى استغاثة  , عندما أحس بأصابعها تتحوّل إلى أنياب تمساح , وتضغط على يده بقوة هائلة , و في لمح البصر شعر بيده تدور حول نفسها دورة كاملة حتى سمع صوت  تحطّم عُظيمات رسغه ! فطفق يصرخ من هول الألم : ـ ذراااااااااااعييييييييييييييي .. .. ذراعي  .. انكسررررررررررررت !!

     لم يستطع أن يفلت يده , إلا عندما سمحت هي بذلك , أطلق ساقيه للريح , وهو لا يزال يصرخ , لم يُصدّق الآخرون ما رأته عيونهم , و تسمّروا في أماكنهم من هول المفاجأة ! حتى انتبهوا على زمجرة قوية خرجت من بين شفتيها ! إنهما نفس الشفتين اللتين كانتا منذ قليل  حبّتا كرز ٍناضجتين , انطلقوا خلف زميلهم الفار , وهم لا يجرؤون حتى على الالتفات !

     إنهم مساكين !! لا يعلمون أن الحياة أجبرتها على أن تعمل في مصنع للحلويّات و المشبّك , وكذلك في مؤسسة الخبز , وفيهما تعلمت كيف تحمي نفسها , وكيف تتعامل مع أمثالهم من الحثالة ! ففي هذا المصنع , وفي تلك المؤسسة توجد كل أنواع الكائنات البشرية , كلها !

     هدأت شيئا ما , فأخذت تتأمل فستانها بلهفة , وهي تخشى أن يكون قد أصابه تلف أو مكروه, بعدما اطمأنت على تحفتها , ودّعت حُلمها المستحيل خلف الزجاج , وقررت أن تكمل مسيرتها نحو الحفل , عسى أن تستطيع تحقيق حلمها القريب , حلم حياتها .

     عندما أصبحت على بُعد خطوات من الكازينو الذي سيقام فيه الحفل , شعرت بالارتباك , وطار من يدها المنديل الحريري , حمله الهواء الشديد ُ إلى أعلى في اتجاه الكورنيش ! عبرت الطريق وسط عشرات السيّارات المنطلقة و التي كانت ستدهسها , ظلت وراءه حتى ذهب بها إلى الهيكل المعدني , بل وأوصلها إلى نهاية ذلك الهيكل حيث منتصف النيل تقريبا , هدأ الهواء قليلا , فسقط المنديل الحريري في مياه النيل ! كادت تبكي , شغلها عن البكاء رؤية ذلك الضوء العجيب الذي كان يظهر ويختفي , إنه ينعكس من طوق ذهبي يطفو ويغطس في الماء دققت النظر فإذا بها تراه , إنه كلب يغرق , لم تتردد ! نسيت أمر الفستان والمنديل وصاحبة البوتيك التي ستطردها من العمل , بل و ستتهمها بالسرقة , ونسيت حلم العمر , لم يعد يشغلها إلا إنقاذه , ألقت نفسها في النيل , إنها بارعة ٌ في السباحة , تعلمت السباحة من أبيها الذي كان مدربا للسباحة في الاستاد وكان لا  يناديها  إلا  " تونة " , كان ذلك قبل أن تفقده وهي في الثانية عشرة من عمرها .

     اليوم , وهي تقف في شرفة فيلا رائعة تطل على البحر , تذكرت كل هذه الأحداث التي وقعت في تلك الليلة العجيبة , وهي تربت على ظهر كلبها الضخم ذي الطوق الذهبي , ابتسمت ابتسامة عريضة وهي ترى حلم عمرها واقفا بجوارها  يربت هو الآخر على ظهر كلبه , الذي ألقى بنفسه في النيل لينقذه , وكاد يغرق معه , لولا فتاة أحلامه هذه , ومنديلها الحريري !

28 ـ 8 ـ 2018 م          

 

 

 

 

الديك ذو العرف الأبيض

     العمارة المجاورة لنا مكونة من سبعة طوابق ، ومبنية على مساحة كبيرة من الأرض ، فوق سطحها الكبير توجد الكثير من العشش المبنية بالخشب والصاج  والتي يرتع فيها عدد ٌ كبير ٌمن الدجاج والبط من كل الأعمار، والأحجام، والألوان !

     يتوسط هذه العشش برج ٌ خشبي ٌّ يرتفع في السماء عدة أدوار ، إنه أكبر و أشهر برج حمام ٍ في المنطقة كلها ، بناه  صاحب العمارة ، فقد كانت هوايته المفضلة تربية الأنواع النادرة من الحمام !

     أما أنا فكانت هوايتي أن أصعد كل يوم قبل غروب الشمس ، لألعب بالكرة فوق سطح العمارة التي أسكن فيها ، و أراقب أسراب الحمام وهي تطير وتحلق في الجو ، ثم تعود إلى أعشاشها فوق البرج ! ليس هذا فحسب ، فقد كنت أستمتع أيضا برؤية أسراب البط والدجاج من كل شكل ولون ، والتي يربونها في تلك العشش المتفرقة حول البرج !

     لم يكن يفسد على َّ فرحتي إلا رؤية ذلك الشيخ الضرير الأشعث الأغبر ذو الشعر الأبيض ، واللحية البيضاء ، والذي كان يعيش في عشة صغيرة من تلك العشش ! وكان يأتي له بالطعام كل يوم خادم ٌ يضعه له في نفس الأطباق التي يوضع فيها أكل الطيور ! كنت أبكي وأنا أشاهد ذلك المسكين يزحف في الليل ، ويطوف السطح زاحفا ، حتى غلب على ظني أنه مشلول أيضا !

     كنت أتساءل عمن يكون ، ولماذا طرحوه فوق السطح كالمنبوذ ، في عشة تعيث فيها الجرذان والهوام ! أيكون أحد الخدم أو العمال الذين ليس لهم أهل ، وعندما كبرت سنه ، وأصابه العجز والعمى ، نبذوه بهذه الطريقة الوحشية !

     لقد راعني ذات ليلة ، أن ديكا كبيرا استطاع أن يخرج من عشته ، وكان الشيخ الضرير قريبا منها ، فظل الديك ُ يقفز نحوه ، وينقره في وجهه ، حتى سال منه الدم ، وهو يصرخ ويستنجد ، و لا مغيث ، حتى اصطبغ شعر رأسه ولحيته الأبيض بلون الدم الأحمر ، كنت في السابعة من عمري ، ولم أستطع أن أفعل أي شيء !!

     في صباح اليوم التالي ، صحوت على صوت المنادي وهو يعلن وفاة صاحب العمارة ، لم أشعر بأي حزن كما كان يحدث عندما كنت أسمع صوت الناعي من قبل ، فكيف أحزن على رجل غليظ القلب مثله ، يرمي بأحد خدمه أو عماله فوق السطح بهذه الوحشية !

     لكن الذي يحيرني ، أنني لم أعد أرى الشيخ الضرير على سطح العمارة ، بل إنهم جاؤوا بخادمة غسلت ، ومسحت العشة ، ثم وضعوا فيها بعض الدجاج والبط ! وما زلت حتى الآن أتساءل في ذهول ، أين ذهبوا بذلك المسكين المشلول !

28 / 8 / 2019 م

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الشعرة

   في منتصف الكوبري العلوي تقابلا , شاب ٌ في أوج قوته وعنفوان شبابه , وشيخ ٌ بلغ أرذل العمر ! توقفا متواجهين , و كل منهما ينتظر أن يرحل الآخر ! لكن ظل كلاهما على حاله واقفا ينتظر! شعر الشاب بالضجر , وقال للشيخ : - ألن تكمل طريقك .. .. ؟ !

: - أنا في نهاية طريقي يا بني !

: - هاها .. جئت هنا إذا لتموت  .. ألا تستطيع الانتظار حتى توافيك المَنيّة , أم تخشى أن  تنتظر طويلا  .. ها ها ؟!!

   فوجئ بالشيخ ينهار , ويسقط على الأرض , والدموع  تنهمر من عينيه , لم يكن يدرك أن كلماته ستكون حامية إلى هذه الدرجة كالسكّين , شعر بالندم على ما قاله  , فانحنى و انكب عليه يربت على ظهره , و يقول له آسفا  : - سامحني لم أكن أقصد  ..

 ظل الشيخ على حاله , بل وزاد في البكاء ! فقال له يواسيه : -لكل داء دواء , ولكل مشكلة حل , لا تيأس من رحمة الله !

   لا يعرف كيف جرت هذه الكلمات على لسانه , وهو نفسه جاء إلى هذا المكان ليقذف بنفسه في النيل , بعد أن مر ّ بتجربة حب ٍ فاشلة , كيف خلع رداء اليائسين , وارتدى زي الواعظين ؟!

   فوجئ بالشيخ يرفع رأسه , ويقول بحزن : - عشت حياتي كلها أحلم , و أنتظر اللحظة التي سيتحقق فيها حلمي أنا و زوجتي , و عندما جاءت اللحظة .. بداية السعادة , انهارت الدنيا كلها من حولي !!

-       ماذا حدث ؟!

-       ماتت زوجتي .. و مات الطفل الذي انتظرناه طويلا .. ماتت وهي تلده .. فقدتهما معا في ليلة ٍ واحدة ! فقدت كل شيء , كيف سأعيش بعدهما ؟!!

   ساعد الشيخ على النهوض , وسار معه , وهو يمسح له دموعه بمنديل ورقي , ويواسيه بكلمات ٍ جعلته هو نفسه يعدل عن قرار انتحاره ! سمع نفسه يقول له : - الموت لم يكن في يوم ٍ من الأيام حلا ً , وحبك العظيم لزوجتك الراحلة وابنك الفقيد لم يكن جريمة تعاقب نفسك عليها بالموت ! إن العظماء فقط هم الذين تختارهم الدنيا لمثل هذه المحن , وأنت رجل عظيم و عليك أن تصبر !

   لم يترك الشيخ إلا بعد أن هدأ  , و عاد إليه صوابه , وانصرف إلى بيته , وعندما رجع الشاب إلى البيت وجد أهل خطيبته وأهله ينتظرونه !

   و فوجئ بخطيبته تقوم من مكانها وتجري نحوه , وتقول له أمام الجميع : - أنا آسفة .. سامحني أرجوك

   ارتمى على أقرب أريكة , وهو لا يُصدق ما يحدث , فلم يكن بينه وبين الموت سوى شعرة واحدة .

 3 /6 /2019  م

 

 

 

 

 

 

 

بلاد العبيد

   علمته سنوات ُ الغربة أن لكل شيء ثمن , وأن الدنيا لا تعطي إلا لكي تأخذ ! و قد دفع مقابل حفنة رزم من الريالات السعودية التي عاد بها , دفع  زهرة عمره , شبابه ! كما كان سيدفع حياته غرقا في مياه البحر الأحمر !!

   لكنه فوجئ بأن الرزم التي عاد بها لا تكفي لتحقيق حلم حياته , فقد سافر وهو يحلم بالأموال التي سيشتري بها صك حريته , فالفقر الأسود في هذا الزمان يجعل منك عبدا

كما أن البشرة السوداء كانت تدمغ أصحابها بالرق والعبودية , والسادة اليوم هم أصحاب الأموال والجاه والسلطة , و لا عزاء للفقراء !

   كان يحلم بأن يعود  بما يكفي لكي يمتلك شقة وأثاثا ومحلا يبيع فيه أي شيء ! لكنه فوجئ بأن كل شيء قد تغيّر , الأسعار نار , وما عاد به لا يكفي حتى لشراء شقة ! كما أن الأحوال لا تشجع على البقاء , الوجوه عابسة , وأحاديث الناس إما حسرات على ما فات , أو تخوّفات مما هو آت ! و كأنهم في سفينة أشرفت على الغرق , والجميع يتأهبون للموت !

   إنه في حيرة من أمره , أيظل على السفينة حتى تغرق وتجذبه معها إلى الأعماق ! أم يقذف نفسه في وسط الأمواج لعله ينجو !

   لم يأخذ وقتا في التفكير , ألقى نفسه وسط الأمواج من جديد , إنه الآن في وسط البحر الأبيض فوق سطح إحدى المراكب العتيقة في طريقه إلى قبرص , مع مجموعة كبيرة من الشباب الذين خرجوا فرارا من الفقر الأسود والعبودية الجديدة , لقد ازدحمت بهم المركب حتى أصبحت مثل علبة السردين !

   إنه يحلم الآن بالدولارات التي سيعود بها بعد أن دفع الريالات السعودية ثمنا لتذكرة الذهاب إلى قبرص , ترى هل يعود حقا ويحقق حلمه , أم يكون مصيره هو نفس مصير أسماك السردين ؟!!

 

 

 

 

                       

 

تذكرة دخول إلى النار

   رائحة الدجاج المشوي على الفحم جعلته ينسى كل شيء حتى موعد قيام القطار الذي سيستقله عائدا إلى بلدته !

   شاشة التلفاز في مطعم المحطة  تعرض نشرة الأخبار , تساءل متعجبا كأنما يهمس لنفسه :- ما فائدة نشرة الأخبار ؟ ! إنها لا تسمن , ولا تغني من جوع !

   اندهش وهو يسمع المذيعة تعلن أن أحد المسئولين قبض عليه أثناء تسلمه رشوة قدرها ثلاثة ملايين , وجد نفسه يقول مستنكرا : - مغفل .. ماذا سيفعل بهذه الملايين كلها ؟!

   تحسس تذكرة القطار التي في جيبه , و عندما اطمأن إلى أنها في مكانها , أطلق العنان لعينيه لتلتهما الدجاجة اللذيذة التي أمامه , قبل أن يلتهمها بالفعل !

   نظر في ساعته , وهز ّ رأسه بزهو , وهو يقول : - عشر دقائق .. إنه زمن قياسي !!

   اعتاد أن يركب سيارة أجرة في مثل هذه الظروف , لكنه هذه المرّة  قرر أن يُضحي بهذه الرفاهية , ويركب قطارا حتى يوفر ثمن وجبة الدجاج اللذيذة هذه !

   جذب انتباهه صوت المذيعة وهي تعلن خبر انفجار عربة في أحد القطارات مما أدى إلى نشوب النار في القطار كله , وتم ذلك بعد مغادرة القطار للمحطة بدقائق معدودة !!

   شعر بالخوف والهلع وهو يشاهد الصور الحية للقطار المنكوب , والركاب الذين تلتهمهم النار وهم أحياء , لم يتحمل رؤية المزيد , فقفز من على الكرسي بجسده البدين وجرى ناحية الباب , الخوف يكاد يقتله يخشى أن يحترق القطار الذي سيركبه هو الآخر , ماذا يفعل ؟!

   عندما وصل إلى الرصيف الذي سيستقل منه القطار , فوجئ بأن القطار قد غادر منذ دقائق , أخرج التذكرة من جيبه , لقد صرف كل ما معه , ولم يتبقى معه سوى هذه التذكرة !

   التذكرة لم يعد لها أي قيمة , كيف سيعود إلى بلدته ؟! لم يجد أمامه إلا أن يعود إلى المطعم , جلس في نفس الكرسي , كانت هموم العالم كله تتزاحم فوق رأسه , حتى أنه وضع رأسه بين كفيه , وطفق يقول : - اللعنة على الدجاج المشوي ! ماذا أفعل الآن ؟! أمد يدي .. أتسوّل !!

   صك طبلة أذنه صوت المذيعة , وهي تقول : - إن رقم القطار المنكوب هو 313 , كما أن رقم الرحلة 13 .

   قال بصوت ٍ مسموع :- ياااه ! ما هذا النحس ؟! له حق يتحرق !!

   و فجأة انتصب واقفا , كأنما لدغته أفعى , و أخرج تذكرة القطار من جديد , لم يصدق عينيه وهما تقرآن المكتوب فيها فقد كان رقم الرحلة 13 و رقم القطار 313 .

6 / 6 / 2019 م

 

 

 

 

 

 

 

لعبة السلم والثعبان

       تسلّق سور القرافة بسرعة , وانطلق بين المقابر يجري , والأضواء المتقطّعة تطارده , و صوت سرينا  عربات الشرطة تدوّي في كل مكان , ظل ّ يجري إلى أن وصل إلى حوش ٍ كبير تسلّق بوابته الحديدية , وقفز إلى الداخل , واختبأ خلف الضريح , كان كل ما يشغله ألا يدخل السجن , بعد قليل اختفت الأضواء , وابتعد صوت سرينا الشرطة , وحل ّ السكون تماما تلفّت َ حوله فوجد نفسه بين الأموات وسط ظلام الليل , هرع إلى الباب الحديدي ليتسلق إلى الخارج فلم يستطع ! ارتعدت أطرافه , وسَرت قشعريرة ٌ في جسده , وبات لا يقوى على الوقوف من شدة ما أصابه من الرعب !

     في الصباح عثروا عليه أمام باب الضريح يغمغم بكلمات ٍ غير مفهومة , لم يزجوا به في السجن , وإنما أرسلوه إلى مستشفى المجانين !

 

 

 

الفيش .. ولقمة العيش

     دخل قسم الشرطة بقدميه ، ليعمل فيش و تشبيه  للحصول على العمل الجديد ، و بعد أن أخذوا بصمات أصابعه لم يسمحوا له بالخروج ! قالوا له أن عليه خمسة عشر حُكما !!

     أقسم لهم أغلظ الأيمان أنه بريء , ولا تشوبه شائبة ، فلم يأبه لكلامه إلا قضبان الزنزانة التي حجزوه فيها ! وقال له المحامي أن المسألة مجرّد تشابه أسماء !! لكنه سيظل في الحجز أياما حتى يتأكدوا أنه ليس الشخص المطلوب !

     ارتمى على البرش يتحسّر على أيام النجارة و يندم على أنه  طلقها ، مع  أنها هي التي خلعته ! ولذلك اضطر إلى البحث عن عمل آخر ، و لسوء حظه طلب منه أصحاب العمل الجديد  فيش وتشبيه

الفيش : بصمات الأصابع

 

 

 

عريس .. من الفيس !

     أخبر كل أفراد البيت أن يكونوا على أهبة الاستعداد ، و لا سيما ابنته ! فالليلة سيستقبلون ضيفا في غاية الأهمية ، ظل أكثر من ساعة يصف لزوجته وابنته مناقب ضيفه المهم ، مهندس في مديرية الزراعة في عقده الثالث ، مثقف ، بل وكاتب ، يقيم في القاهرة ، لديه شقة على النيل ، وسيم ، وعلى خلُق ، سألته زوجته : - كيف عرفت كل هذا ؟ !

رد ّ عليها بثقة : - من هاتفه المحمول .. الذي وجدته أمس في موقف الميكروباص ، وكانت صفحته على الفيس مفتوحة فتصفحتها ، وعرفت عنه كل شيء !

     فضّل َ أن يدعوه إلى بيته بدلا من أن يقابله في مقهى أو في الشارع ليرد له هاتفه ، ربما يتحقق ما يتمناه فيُعجب بابنته الجميلة ، ويطلب يدها ، إنه عريس ممتاز !

     رن ّ جرس الباب ، شد ّ رباط عنقه ، وفتح الباب وهو يعدل ياقة قميصه ، فوجئ بالصبي (بلية ) بائع اللبن على الباب يطالبه بهاتفه المحمول الذي فقده أمس !!

الأراجوز .. و الأندومي

     اختبأ خلف خشبة المسرح حتى يوفر الخمسة جنيهات ثمن التذكرة ، ليشتري الأندومي !  لذلك لم يتمكّن من مشاهدة  العرض جيدا  لكنه  استطاع أن يرى الأراجوز الحقيقي والذي لم يكن سوى عجوز تحرّك الدُمى وتصدر الأصوات المضحكة !

     أمواج ٌ من الضحك تعلوا ، وترتفع معها أيدي الجماهير الغفيرة تصفق وتلوح للأراجوز في سعادة غامرة ، لاحظ أن العجوز كانت تتلوى بطريقة عجيبة , وسمع  لها حشرجة ً كبيرة قبل أن تسقط الدمى وتقع هي وتصطدم بحائط العرض الخشبي ، بلغت نوبات الضحك ذروتها واهتزت الأرض من شدة  التصفيق

     صك أذنيه صوت أحد المشرفين وهو يقول بعد أن أمسك يد العجوز يفتش فيها عن أي أثر للنبض : -  ماتت .. !

     لم يتمالك نفسه ، وسقطت علبة الأندومي من يده ، واجتاحته موجة ٌ كبيرة من البكاء وهو يصيح : - مات الأراجوز .. الأراجوز مات !

11 /  6  / 2019  م

حادث سير

       لم يفارقه أبدا ، يتبعه أينما ذهب ؛ يمشي خلفه ، عن يمينه ، عن يساره ، و كأنه حارسه الشخصي ،  ولا يتركه إلا مُجبرا ! إنه خله الوفي الذي يأتمنه على أدق أسراره  ، بل ويدخله معه إلى بيته ، ولا يغار منه على زوجته  و أولاده !

       وفي تلك الليلة المشؤومة فوجئ به أمامه ! لأول مرة يقف أمامه ! وكأنه لا يريد منه أن يتقدَّم خطوة ً في هذا الطريق ،  يريد ُأن يمنعه ! ولكن هيهات ، تلفَّت حوله بريبة ٍ شديدة ، وعندما تأكد أن لا أحد يراه ، داس عليه بقدميه ، دهسه ، كما لو كان يدهس نملة أو صرصارا ً ،  ثم غاص في الظلام !!

7  /  10 / 2018  م              

 

 

 

 

الوجه  الآخر

       في قريته ، والقرى المجاورة ، نحر لهم الذبائح , و وزَّع عليهم العطايا والهدايا بسخاء لم يعهدوه منه حتى في عيد الأضحى ؛ ففرشوا  له أصواتهم , ليصعد عليها ، و قلدوه ثقتهم, حتى بلغ قبة البرلمان , وقبل أن يتبوَّأ مقعده تحت القبة ألقى بالوجه الذي يعرفونه في سلة المهملات , خلف باب القاعة ! و ظهر لهم على التلفاز بوجه ٍ آخر لا يعرفونه !!

 

 

 

 

 

 

 

إنهم يذبحون الأحلام !!

   فرحته باستلام خطاب التعيين سرعان ما تبخرت ؛ بمجرد أن سلَّمه مدير ُ التنسيق ِ الخطاب الذي سيتوجَّه به ِإلى المدرسة التي تم تعيينه فيها! فهو لم يسمع اسمها من قبل ، و حتى القرية التي تقع فيها- هذه المدرسة – قرية نائية ، بحث عنها على خريطة المحافظة ؛ فلم يجد لها أثر !

   الأعجب من ذلك - وهو الذي جعله يبكي أسفا ً على حاله – أنه لكي يصل إليها اضطر َّ للتعرُّف على أربعة ٍ من وسائل المواصلات ؛ فركب القطار ، ثم الميكروباص ، ثم التوك توك ، و أخيرا ًعبر النيل َ إليها في قارب ٍ يُطلقون عليه ِ اسم " المعدِّية " !

   و عندما وصل ، اقتنع بنصيحة مدير ِ التنسيق ِ له حين قال : - القرية .. .. جميلة ، وهادئة جدا ً ، وستحب الحياة فيها ؛ لدرجة أنك ستنتقل للعيش فيها ، صدقني ! ثِق في كلامي !

   انتقل بالفعل للسكن في القرية ، ولكن ليس حُبَّا فيها ، بل لأن الذهاب إليها يوميا ً سيكلفه راتبه كله ومثله معه ! هذا غير مشقة السفر !! .                           7  /  10  /  2018  م

أشياء مفقودة

     تعوّد َ كلما مر ّ من أمام المحطة أن يدخل ، ويجلس على هذا المقعد ، رغم أنه أشرف على الأربعين إلا أنه ما زال على عهده !

     يُخرج ُ من جيبه ساعة ً ذهبية ً ثمينة ، يتأمّلها بشغف بالغ ! ثم ينظر حوله لعله يرى وجْه صاحبتها مرًة ً أخرى !

     رأى وجهها من خلف زجاج نافذة الأتوبيس منذ عشرين سنة ! هم ّ بأن يرد ّ إليها ساعتها التي سقطت منها ، ولكن استوقفه الجمال الباهر ،  والرقة المتناهية لذلك الوجه الملائكي !

     تجمّد في مكانه ، وكأن سهما شق صدره ، ونفذ إلى قلبه لدرجة أن دمعتين تسلّلتا من مقلتيه ! تحرّك الأتوبيس ، وتحرّك قلبه من ضلوعه ، ولم يرجع حتى الآن !!

16 / 6 / 2019  م

 

 

 

حريق ٌ في رأسه !

     ظن أن القرية أخف وطأة من المدينة ، إنه لا يطمع في الكثير ، راحة البال فقط تكفيه !

قضى ليلته الأولى ، وعندما استيقظ شعر بوعكة ، اختفت كأنها تبخرت بمجرّد أن كشف عليه الطبيب ،  فقد أقنعه بأنه لا يعاني من أي شيء !

     وهو يصلي الجمعة الأولى له ، فوجئ  بالطبيب مرتديا زي الإمام ، وواقفا على المنبر يخطب في الناس ، تعجب إنه نفس الشخص !!

    و مع ذلك  أعجبه كلامه عن الزهد والرضا والقناعة ، ولكن شيئا داخل رأسه بدأ يحترق !

     في اليوم التالي ذهب إلى مكتب البريد الذي انتقل للعمل فيه ، استقبله المدير بحفاوة كبيرة ، ولكنه – رغم ذلك – سقط مغشيا عليه ، بمجرد أن رأى وجهه ، فقد كان هو هو !!

16 / 6 / 2019  م

 

طنين النحل !!

     في ظلام القاعة ، ارتفعت ضحكات من حوله ، وهم يتابعون ما يقوم به الممثلون على المسرح ، أما هو فجبينه كان يتصبب عرقا ، والقلق يضرب – بغير هوادة – طبول قلبه ! فالشابة التي على يساره لامست أناملها الرقيقة أصابع يده ، ورغم أنه سحب يده بهدوء ، إلا أنها عادت والتصقت به عن عمد ، بل وأسندت رأسها إلى كتفه !

     تلفت حوله بخوف ، يشعر أنه في ورطة ، سمع الصوت يقترب من رأسه ، إنه طنين قوي يذكره بما حدث له في طفولته ، عندما قبلته ابنة عمه في فمه كما فعل البطل والبطلة في الفيلم ! يومها قرصته النحلة في فمه فتورّمت شفتاه ، وظل ّ أياما يتألم ويعاني !

     لم يتحمل فكرة أن يتورم جزء منه من جديد ، فقفز من الكرسي ، وخرج من القاعة ، لحقت به أمام باب المسرح ، تبدوا غاضبة ، وحُمرة الخجل قد صبغت ملامح وجهها ! فوجئت به يمد يده ويحتضن بها يدها ، ويقول بصوت ٍ مسموع ، وهو يتلفت حوله : - والله العظيم .. خطيبتي !!

17 / 6 / 2019  م

رأس حمار !!

     الهامبرجر بالمايونيز ، والشيبس ، وزجاجة البيبسي أمامه ، وعلى شاشة التلفاز بطله المحبوب " رامبو"  يُدمر كتائبا كاملة لينقذ فتاة ً من بين براثن الأعداء !

     لكن نباح كلبه كاد يُفسد عليه ليلته ، ويذهب بلذة الطعام ، ومتعة المشاهدة ، تعجّب َ من وقوفه أمام باب الشقة ، ونباحه المفاجئ !

     فتح َ الباب أكثر من مرة لُيريَه أن لا أحد وراءه ، وقال له بتهكم : - أرأيت يا " عنتر " .. لا يوجد أحد ، اهدأ .. اهدأ يا رأس الحمار ! نباحك يشبه النهيق .. تعالى شاهد معي الفيلم ، وتمتع بالهامبرجر !

     أتاه ُ من بعيد صوت ٌ شديد كأزيز الطائرات والدبابات ، ودوي انفجارات ! ظن للوهلة الأولى أنها تنبعث من تلفازه !

     فجأة تحطم الباب أمامه وظهر " رامبو "  ، شاهده  بعينيه  يثقب رأس " عنتر " بطلقة ٍ قاتلة ، قبل أن يُصوب سلاحه الناري نحوه ، ويثقب جبهته بالطلقة التالية !!

19 / 6 / 2019  م

المنتخب .. والذهب !!

     قال له الحلاق متفاخرا : - سأشاهد مباريات المنتخب من الاستاد .. اشتريت التذاكر بعد كفاح رهيب !! .

     كان يظن أن مقص الحلاق سيُخلصه من بعض  الهموم التي تراكمت فوق  رأسه ، لكنه لم يكن يعلم أن كلامه هذا سيُقلِّب عليه المواجع ، فقد ذكّره ُ بحماته وهي تعايره قائلة ً : - عديلك فتح دفاتر توفير لزوجته وأولاده ، وأنت تريد أن تبيع الشبكة يا جربوع يا فقير !!

     أتاه ُ صوته يسأله باهتمام : - أتظن أن منتخبنا سيحرز اللقب للمرة الثامنة ؟ .

وجد نفسه يعض شفته من الحسرة ، وهو يفكر في اللقب الذي ينتظره .. لقب مُطَلق ! ليته لم يُصر على بيع الشبكة ، صحيح أنه أراد بيعها ليُنفق من ثمنها على البيت ، لكن حماته ذبحته عن عمد أو بدون قصد عندما قالت له : - ما دمت لا تستطيع أن تنفق عليها فلماذا تزوجتها  يا فاشل ؟ ! طلِّقها .. واعتقها لوجه الله !

     النار ُ تستعر ، ولن تنطفئ أبدا طالما زوجته وابنته عند حماته ، قضى بضع ليال ٍ وحده في الشقة خائفا يترقب ، فلو حصل الطلاق ، لن يرى ابنته إلا بالقطّارة ، والنفقة لن يستطيع دفعها ، والباقي من عمره سيقضيه فوق الرصيف !

     أعاد عليه السؤال مرة ً أخرى وقد ظن أنه لم يسمعه ، فرد ّ عليه قائلا : - أتمنى .. أن توافق حماتي و تعطيني الذهب  !

20 / 6 / 2019  م

 

 

 

 

 

الحالة رقم ( 11 )

   في منتصف الكوبري العلوي توقفتْ , لم تشرق الشمس بعد ! الكوبري خال ٍ من المارة , ومن السيارات العابرة , لا أحد تقريبا إلا هي , و ذلك المجذوب التعس النائم على الرصيف عند أول الكوبري , والذي يحسبه كل  من يراه ـ لأول وهلة ـ قطعة بالية من الرصيف المتهالك .  تلفتت حولها في خوف , إنه نفس المكان الذي ابتلع ـ في أقل من ثلاثة أشهر ـ عشرة ضحايا في نفس عمرها تقريبا ! شباب و شابات  في عمر الزهور لقوا حتفهم في هذا المكان ! يداها ترتعشان في إحداهما منديل ٌ ورقي , و في الأخرى علبة رش تمسكها بإحكام

   الدموع التي انهمرت من عينيها , جففتها بالمنديل الورقي تركته يسقط نحو النيل ,ووقفت تراقبه .  أمامها في الأفق بدأ شروق الشمس , مشهد خرافي ! تذكرت أن البعض قالوا أن سر انتحار الضحايا في هذا الوقت تحديدا يرجع إلى طقوس مزعومة , وأن هؤلاء الشباب كانوا من عبدة الشيطان !! راودتها أمنية أعجب من هذا , لقد تمنت لو تستطيع حرق كل من يطلقون هذه الشائعات , وكل من يروجونها

   تذكرت صديقة عمرها ورفيقة دربها , والتي أصبح اسمها على صفحات الجرائد وشاشات القنوات الحالة رقم ( 10 ) !! . أُغلق التحقيق وقُيّد على أنه حالة انتحار , تماما كما حدث مع من سبقوها ! . إنها لا تُصدق أبدا أنها انتحرت , مستحيل أن تنتحر .. مستحيل !

   انتابها الهلع عندما صك أذنيها نباحُ  قطيع ٍ كبير من الكلاب الضالة , رأت الموت يقترب وهى ترى كل هذه الكلاب الشرسة تركض ركضا نحوها , همّت بالفرار , لكنها تسمّرت مكانها عندما تذكرت نصيحة زميلتها الراحلة : ـ إذا نبح عليك كلب , فلا تجري , فإن الكلاب تشم رائحة الخوف .  وبالفعل عبرت الكلاب أمامها دون أن تلتفت إليها , والعجيب أن الكلاب كانت تركض مذعورة ً وكأنها تفر من وحش ٍ مفترس ! . ما هذا الوحش الذي يُمكن أن يسبب كل هذا الرعب لقطيع كبير من الكلاب الضالة ؟! هدأت قليلا وهى ترى الشمس تملأ الأفق , كان مشهدا ً مهيبا  .عادت تسأل نفسها نفس السؤال ( لماذا انتحرت ؟! ) جاءت إلى نفس المكان وفي نفس الموعد , كثير من زملائها يعبرون الكوبري في هذا الوقت المبكر جدا والخطير , ليتمكنوا من اللحاق بسيارات المدينة الجديدة بسهولة ويُسر , فبعد شروق الشمس يكتظ موقف السيارات تحت الكوبري بالطلبة , ويقل عدد السيارات ويصعب عليهم الوصول إلى كلّياتهم .لا أحد من المسئولين أو السائقين يبالي أو يهتم  لأمرهم, فلكل ٍ منهم اهتماماته الأخرى .

   وهي على حالتها تلك أحاط بساقيها  ذراعان قويان , وحملاها بعيدا عن الأرض , قبل أن تداهمها حمى الرعب المميت , ضغطت علبة الرش التي في يدها اليمنى بكل قوة , وهي تسدد فوهتها في وجه الوحش الغادر الذي كاد أن يقذف بها في النيل سقطت على رصيف الكوبري

والشعرة التي بين روحها وجسدها تكاد تنفصم , لمحت الوحش وهو يصرخ ويقفز في مكانه من شدة الألم الذي أصاب عينيه , إنه نفس المجذوب الذي تراه كل يوم نائما أو جالسا القرفصاء على الرصيف بثيابه البالية الممزقة التي تبدي من جسده أكثر مما تواري , طفق يقفز كالدجاجة المذبوحة ويصرخ حتى اصطدم بالسور ، وهوى في النيل , كل ذلك حدث في لمح البصر !

  لم تذهب إلى الكليّة , حبست نفسها أياما في البيت , في حجرتها  .  بعد  فترة أصبح حديث الساعة في  الأخبار , وفي الجرائد العثور على جثة جديدة في النيل انتهت التحقيقات وأغلق المحضر على أنها حالة انتحار تم قيدها برقم ( 11 ) , بعد ذلك توقفت الحوادث تماما في هذا المكان  لم يعد أحد يسمع أو يقرأ عن أي حالات انتحار أو غرق  , ومع ذلك , ورغم مرور سنوات , ما زال الناس يعتقدون أن هؤلاء الضحايا انتحروا . فهي لم تخبر أحدا حتى الآن بما حدث لها !!

15 ـ 8 ـ 2018 م

المشهد الأخير

الليلة حفل زفاف ابنته الكبرى , التي تخرّجت من كليّة الطب , آن له أن يفرح و ينال ثمرة تعبه و تضحياته , ابنته الوسطى طبيبة صيدلانية , والصغرى في كلية الآداب , وولداه يدرسان في كلية الحقوق , ولديه ثروة كبيرة من المال , كل هذا بعد سنوات من الضنك والحرمان ! وهو جالس في سيارته الفارهة أخذ يلوم نفسه لأنه لم يدخل مع ابنته عند الكوافير , الجميع معها إلا هو , لماذا ؟! لمح زوجته خارجة من هناك , تتجه ناحيته , قبل أن تصل إليه و توبخه كعادتها , أسرع و نزل من السيّارة  , ليتلقاها لكنه و هو يغلق الباب أغلقه على إبهامه فطارت عُقلة كاملة منه ! سال دمه  بغزارة ! في غمرة الألم والخوف تذكر عقلة إصبع أخيه الأكبر التي لطّخها بالحبر ليحصل على بصمته و التي حصل من خلالها على ممتلكاته , تذكر وهو يُدخل جثمان أخيه إلى القبر , ويطالب الجميع بأن يتركوه معه لحظات ! سمع صراخ  زوجته , لم  تصرخ على إبهامه الذي طارت منه عقلة كاملة ,  صرخت عندما رأت عمارة الكوافير تنهار وتهوي على من فيها , وأولادها في الداخل , تحوّل المبنى إلى أنقاض في ثوان ٍ معدودة ! أغشى عليها , أما الرجل فنزل على ركبتيه أرضا وهو يصرخ : ـ أولاددددددددددددددددددي  !!   1 / 9 / 2018         

فوضى عارمة !!

     انتهز فرصة خروج الجميع من القاعة لمشاهدة الزفة ، ودخل البوفيه ، رش ( الجاتوه )، والتورتة ، و حقن علب العصير ، لم يره أحد وهو يفعل ذلك ، ثم خرج ، ووقف وسط المدعوين يشاهد الزفة ، وكأنه لم يفعل شيئا ً !

     ثقته بأن الفرح سيفسد بعد قليل ، جعلته يبتسم ابتسامة خبيثة ، أخفاها النقاب الذي يرتديه ، والذي لم يكن يظهر سوى عينيه !

     لكنه أحس َّ كأن صاعقة ً من السماء قد نزلت على رأسه عندما رأى وجه العروس ، فلم تكن هي الفتاة التي أحبها ، وفضلت عليه شابا آخر ! لقد أخطأ  ود خل قاعة أخرى !

     ماذا يفعل الآن ؟! كمية الملين التي وضعها ستحول الفرح في دقائق معدودة إلى فوضى عارمة ، و لا سيما أن القاعة فيها حمامان فقط أحدهما للرجال والآخر للنساء .

     بعدما انتهت الزفة ، ودخل الجميع القاعة وراء العروسين ، ظل َّ هو وحده في الخارج ينظر حوله كالمجنون ، و لا يدري ماذا يفعل !

     على الجانب الآخر من الطريق أمام القاعة الأخرى بدأت زفة جديدة ، شاهد بعينيه -المحمرتين من طول السهر - حبيبة قلبه ، وهي تنزل من السيَّارة ، وتتأبط ذراع عريسها ! فلم تتحمَّل ساقاه ونزل راكعا على الأرض وهو يبكي ، حتى أنه لم يشعر بالسيَّارة التي توقفت بجانبه ، ونزل منها ثلاثة شبان ، ظلُّوا يلكمونه في رأسه حتى فقد الوعي تماما ، وعندما بدأوا يرفعونه من على الأرض ويحاولون إدخاله من باب السيَّارة ، أوقفهم رجلان كانا على مقربة ٍ من المكان 

-       لماذا تضربونها بهذه القسوة  .. أليس في قلوبكم أي رحمة ؟!

-       إنها أختنا .. أختنا .. وقد جلبت لنا العار .. ..

-       بحثنا عنها في كل الكباريهات و الملاهي الليلية .. فضحتنا ..

-       لكن لا تضربوها بهذه الطريقة .. ممكن تموت في أيديكم !

انطلقت السيارة بمن فيها كالصاروخ ،  وأحد الرجلين يضرب كفيه متعجبا ويقول لصاحبه

    -  لا حول ولا قوة إلا بالله ، اللهم استر بناتنا يا رب .. معقول هذا الذي حصل ، تفتكر صحيح أنها أختهم ؟!

رد عليه الآخر بنبرة ٍ نادمة ٍ وقال : -  يا أخي .. البنت منتقبة وشكلها محترم .. والشباب  شكلهم مريب ، كان واجب نمنعهم .. ممكن يكونوا خطفوها !

     في الصباح كان من بين الأخبار الأكثر تداولا ، حدوث فوضى عارمة في إحدى قاعات الأفراح ، حيث أصيب العشرات بحالات شديدة من القيء والإسهال ، حتى العروسين تم حجزهما في المستشفى !

     في نفس الوقت انقلبت سيَّارة على الطريق بسبب السرعة الشديدة ، وكان فيها أربعة شبان أحدهم يرتدي نقابا ، والأربعة مصابون بكسور ، و حالتهم خطرة !

24 / 8 / 2019 م

 

 

 

 

 

 

قديس في بلاط إبليس

   يقولون أحيانا أن من نحسبه "موسى " , قد يكون في الحقيقة فرعونا ! هذا الكلام لم أكن أصدقه , حتى اصطدمت بهذا الشخص العجيب , الذي كنت أحسبه ملاكا من السماء , كان زملائي يقولون عنه أنه أحد بشائر الإصلاح , لدرجة أن أحدهم قال : ـ لو نستطيع استنساخ عشرة أو أكثر منه ,  لما كان هذا حالنا ! 

    فهو لا يترك فرضا , و لا تفارق المسبحة أصابعه أبدا , و هو أوّلُ الحاضرين  وآخر ُ من ينصرف مِن عمله , نشيط ٌ لدرجة ٍ أتعبت كل من حوله , تجده على مكتبه حتى يومي الجمعة والسبت , مع أنهما إجازة رسمية !

     يتحدّث عنه الجميع ُ كأنه قِدّيس , فقد تولّى هذا المنصب منذ سنوات  وحتى الآن لم تتصاعد منه فقاعة ٌ واحدة ٌ من فقاقيع الفساد التي تفوح رائحتها من كل من يحيطون به ! لم يظهر عليه أي ّ تغيير واضح , فلا سيّارة , ولا شقة جديدة , و لا رصيد في البنك .

     فجأة , جذبت امرأته كل الأضواء , عندما رفعت ضده دعوى قضائية تطلب فيها الطلاق منه ! فقد علمت أنه تزوّج من فتاة أصغر من بناته وأولاده , عندئذ ٍ ظهرت له ثلاث سيّارات حديثة , وشقتان إحداهما في رأس البر والأخرى في دمياط الجديدة , وأموال طائلة في البنوك بأسماء زوجته و أولاده !

23 ـ 8 ـ 2018 م           

 

 

 

 

 

و كأن عاصفة مرت .. من هنا !!

    عندما فتح الطفل ُعينيه الصغيرتين , أصابته الدهشة ! وامتلأ قلبه الصغير رعبا , فغرفته مظلمة بطريقة  لم تحدث من قبل ! إنه لا يرى شيئا ! حرّك ذراعيه القصيرتين في كل اتجاه , فوجئ أن سقف الغرفة فوق وجهه تقريبا , لا يفصل بينهما إلا سنتيمترات قليلة ! تساءل عقله الذي لم يعي بعد ما يحدث حوله  , هل ارتفع به السرير إلى سقف الغرفة ؟ أم أن السقف هو الذي هبط نحوه ؟! تسرّب إليه شعور ٌ غريب ٌ بأنه ربما تحوّل إلى خفاش ! أصابه هذا الشعور بخيبة شديدة  , وحزن عميق  , فقد كانت أمنيته الأخيرة قبل أن ينام هي أن يصبح طائرا كبيرا  كالنسر أو الصقر حتى يستطيع أن يحمل أبويه وإخوته ويطير بهما بعيدا عن هذه الحرب التي تدمر كل شيء ! أخذ يتحسس جسده النحيل بخوف بالغ , واطمأن عندما تأكد أن جسده ما زال كما هو , ولم يتحوّل إلى خفاش ! فالخفاش لا يستطيع أن يحمل حتى أخاه الرضيع !

    كاد يختنق , من ضيق المكان , وقلة الهواء , ركل َ السقف بيديه ورجليه , فقد كان يعلم أنه مصنوع  من ألواح ٍ متآكلة من الخشب و الصاج الصدئ مثبتة في عروق من الخشب , و بالفعل انفتحت كوة صغيرة , فغمر ضوء الشمس المكان , لم تتحمل عيناه الضوء الشديد , أغمضهما , وبعد برهة , عاد ليفتحهما شيئا فشيئا , استطاع أن يسحب جسده من خلال الكوة ويطلع للخارج , لكنه بُهت عندما رأى ما رآه , لا شيء إلا الأنقاض , لا أثر للمدينة ! لا أثر للناس , حتى الطيور الصغيرة التي كانت تزقزق فوق أغصان الشجر ليس لها أثر , لا قطط تموء , ولا كلاب تنبح , كأن عاصفة عبرت من هنا وأخذت كل شيء معها !

    تذكر والديه وإخوته , أصدقاءه  و جيرانه , لا أثر لهم ! نظر إلى أسفل قدميه , كان يقف على قمة كومة هائلة من الأنقاض ! إنها أنقاض العمارة العالية التي كان هو و أسرته يقطنون في طابقها الأخير !  راوده هاجس ٌ مريع ٌ استطاع أن يطرده بعيدا عن رأسه فقد كاد قلبه الصغير يتوقف عندما مر ّ به هذا الهاجس ُ الخطير , لكنه سرعان ما نسيه ! بل وبطريقة عجيبة , ابتسم ابتسامة كبيرة , وعاد إلى حيث كان , ورقد في سريره  , وأغمض عينيه , وهو يقول بصوت مسموع , وكأنه يُسمع ُ نفسه : ـ مجرد كاااااااااابوس !! .. كل هذا كااااااااااابوس !! سأنااااااااااااااام !!

وسرعان ما بدأ يغط في نوم عميق , على أمل أن يصحو فيجد كل شيء قد عاد كما كان !!

13 / 9 / 2018  م                    

الطفل الذي أسقط طائرتهم

         كل يوم كان يذهب معهم ، ويجمع مثلهم قطعا من الحجارة يملأ بها كيسا من القماش ، لكنه لم يكن يشاركهم في رشق المستوطنين وجنود الاحتلال بها ،  حتى حسبوه جبانا

     كان كثيرا ما يسمع بعضهم و هم يسخرون منه ، لدرجة أنهم كانوا فيما بينهم يسمونه (ابن أمه ) وكثيرا ما كان يسمعها منهم، فيشعر بالحزن الشديد  ، صحيح أنه وحيدها ، لكن لهجة الاستهجان والسخرية التي يقولونها بها كانت تمزق قلبه كالسكين  .

     كان يتركهم ويذهب متسللا إلى إحدى العمارات السكنية العالية القريبة من الجدار العازل ؛  ويقضي وقتاً طويلاً فوق سطحها ؛ يتابع ببصره الطائرة التي تحلق فوق المكان يوميا ؛ إنها لم تخلف موعدها قط ! سمعهم يتحدثون عنها في قنواتهم ، ويتفاخرون بها وبأخواتها ؛ إن الكاميرات الموجودة فيها تكشف لهم كل صغيرة وكبيرة في القطاع ؛ منظومة جديدة للمراقبة يسمونها " النجم الساطع " ، دقيقة واحدة وتصبح أقرب ما تكون ؛ صوب نحوها ، كل يوم يرشقها بالحجارة لكنه حتى الآن لم يستطع إصابتها ، صرخ بأعلى صوته ( الله أكبر ..  ..  الله أكبر) ؛ لم يصدق عينيه ، وهو يراها تترنح في الهواء ثم تسقط فوق أغصان شجرة قريبة ؛ نزل سلالم العمارة بسرعة متلهفا ؛ وقطع الطريق غير آبه بالسيارات المندفعة ! وصل إلى الشجرة ، لكنهم كانوا قد وصلوا قبله ؛ أحاط به مجموعة منهم  ، و قيدوه و ألقوه على الأرض ، بينما قام الآخرون بتخليص الطائرة الصغيرة من بين الفروع المتشابكة ، اقترب منهم بعض الأهالي يستطلعون الأمر وبينهم مجموعة من الصغار إنهم زملاؤه ، لقد عرفهم ،  بدأوا يرشقونهم بالحجارة كعادتهم كلما رأوهم ، كان الجنود يحيطون به كقطيع من الذئاب أو الضباع المفترسة؛ و هم يقتادونه و لا يكفون عن ضربه وركله ! قبل أن يفقد وعيه ، سمع أحد زملائه وهو يقول للبقية ( إنه هو  هو ..  ..   ابن أمه ) ، لكن وقعها هذه المرة على أذنيه جعله يشعر بالفخر .

 ٢٣/٦/٢٠٢٠ م  

  

 

 

 

 

 

 

 

 

المعركة

    كل يوم كان يذهب بطائرة ورقية ؛ ثم يرجع بدونها ! فزملاؤه أكثر منه خبرة في هذا المجال ؛ وكان من السهل عليهم أن يسقطوا طائرته البسيطة بطائراتهم الأكبر ، والأفضل صنعا

     في هذا اليوم خرج بطائرته الجديدة التي أتقن صنعها ؛ وكان حريصاً على أن يحافظ عليها ، و يعود بها .

     كاد يطير فرحا و هو يراها تعلو وترتفع ؛ وكما توقع ؛ لم يجرؤ أحد على إسقاطها ؛ فقد تعمد أن تكون ألوانها نفس ألوان العلم المقدس !

     الجنود في المستوطنة القريبة كانوا كعادتهم سعداء ؛  بانشغال هؤلاء الشياطين - كما يطلقون عليهم - باللعب ؛ فقد أنستهم هذه الطائرات عملهم اليومي ، وهو رشقهم بالحجارة !

     لكن في هذا اليوم بمجرد أن ارتفعت الطائرة في الهواء ؛ فوجيء الجميع بقذيفة نارية حولتها إلى رماد ! و بالجنود يتراقصون فرحا ؛ وكأنهم قد انتصروا في معركة حربية !

     فما كان من الأولاد إلا أن تركوا طائراتهم للريح ! وانطلقوا يجمعون الحجارة ؛ ويتسابقون في رشقهم بها  .

   أما هو فلم يعد مثل كل مرة بدون طائرته ؛ بل عاد ملفوفا في العلم

٢٤/٦/٢٠٢٠ م

الملاك الذي كان شيطانا !

     لا يدري لم أصبح يكره المدرسة ! إنه ما زال في الصف الخامس الابتدائي ، ومع ذلك يشعر بالضيق الشديد  لدرجة الاختناق كلما سمع اسمها ! حتى حصة التربية الرياضية التي كان ينتظرها كل أسبوع ؛ و يحرص على ألا يغيب عنها ، أصبح لا يشعر نحوها بأي اهتمام ؛ منذ أن أبعده المعلم عن اللعب بحجة أنه لم يحضر الزي الرياضي المطلوب

     كان ساخطا جدا لدرجة أنه تمنى لو يصرخ في وجه المعلم بأعلى صوته ؛ ويقول :

_  ما ذنبي .. .. أتعاقبني ، وتحرمني من لعبة الكرة التي أحبها ؛ لأن والدي فقير ، ولا يستطيع أن يشتري لي زيا رياضيا ؟!

بداخله بركان هائل ، يتحين الفرصة ليعلن ثورته ، في المدرسة ؛ أصبح يفتعل الكثير من المشاجرات ؛ يتعارك مع زملائه لأتفه الأسباب ! وفي الشارع  ؛ يكسر كل ما يقابله طالما لا  يراه أحد ؛ لدرجة أنه كان يسرق بعض المعروضات الزجاجية من أمام المحل المجاور للمدرسة ، وعندما يصبح بعيدا عن العيون ؛ يقذفها في الهواء لتسقط محدثة فرقعة كبيرة !

     وفي البيت ، ما أكثر المشاكل التي أصبح يسببها لوالديه ؛ لدرجة أنه كان سيتسبب في طلاقهما أكثر من مرة !

     كان في قرارة نفسه يعرف أنه ربما يكون قد تحول إلى شيطان صغير ؛ ولكنه كان يبرر ذلك متعللا بأن أحدا ممن حوله لا يهتم بسعادته ؛ فلماذا يهتم هو بعدم إفساد سعادتهم !

     قبل توقف الدراسة بأيام بسبب المدعو " كورونا " ، استقبل فصله تلميذا جديدا ؛ قدمته لهم معلمة الفصل ؛ وعرَّفتهم به ؛ ومن خلال كلامها فهم أنه من بلد عربي شقيق ؛ جاء به خاله فرارا من الحرب التي خربت ديارهم ، وقتلت أحبابهم ؛ لقد قتلت كل أسرته ، أبويه وإخوته ! ولم تترك له إلا خاله !

     تعجَّب من هدوئه ، ومن دماثة خلقه ، ومن أدبه الجم ، حتى معه هو ! فقد تعمَّد إحراجه أمام زملائه ، ودفعه أكثر من مرة حتى كاد يوقعه على الأرض ، وكان يقول له ساخرا :

_  أيها اللاجئ  !

ومع ذلك ، كان يبتسم له ، ويرد عليه بلطف ، ويقول له :

_  يا أخي !

     توقفت الدراسة ؛ واستسلم الجميع للحبس المنزلي ؛ الذي زاده ضيقا واختناقا ؛ ووجد نفسه يستعيد ذكريات هذه الأيام القلائل ، ويتذكر ذلك الملاك الذي كان يجلس على بعد خطوات قليلة منه ؛ ووجد نفسه يقول :

-  مؤكد هو ملاك من السماء ! لقد فقد أهله ، وبيته ، وأصدقاءه ، وزملاءه ؛ فقد الكثير لكنه -  رغم أنه صغير مثلي -  لم يفقد إيمانه ، ولم تتغير أخلاقه ؛ ما زال يتعامل مع الناس بكل أدب ولطف !

     في منتصف إحدى الليالي ؛ استيقظت أمه على صوته ؛ فوجئت به يفترش سجادة أبيه ، ويطيل السجود ، ويدعو ! امتلأ قلبها سعادة ؛ واقتربت منه ، وهي لا تصدق عينيها ؛ سمعته يقول :

-  يا رب احفظ أبي وأمي يا رب ، واحفظ بلادي يا رب !

25 / 6 / 2020 م

 

 

( س )

       أخيرا وجدت عملا، بعدما كدت أفقد الأمل! ما هي إلا دقائق وأودع الفراغ الرهيب الذي ألبسني رداء الكآبة أياما؛ كنت أسهر لياليها؛ ولا يغمض لي جفن.

       الفرن الذي سأعمل فيه على بعد شارعين من هذا المكان، وطول الطريق و أنا أنحني لألتقط كسرات الخبز المتناثرة؛ والتي يدوسها الناس بأقدامهم! تعوَّدت – منذ صغري – أن أقبِّل كسرة الخبز؛ وأضعها على جانب الطريق؛ حتى يجدها هرٌّ جائع، إو كلب ضال؛ فتكون له طعاما؛ فأحصد بذلك أجرين: أجر صيانة النعمة؛ وأجر إطعام ذات كبد رطبة! هكذا تعوَّدنا.

       بمجرد أن دخلت من باب الفرن؛ توقَّفت! وكأن رِجلاي قد قيدتا بسلسلة حديدية! كسر الخبز في كل مكان؛ الأرض كلها عبارة عن دقيق، وكسر خبز! كيف أمشي داخل الفرن؟ والعجيب أن الجميع يمشون ولا يبالون بكل هذا الكم الهائل من الدقيق، والخبز الذي تطأه أقدامهم وأحذيتهم!

       تمزَّق قلبي وأنا أسير بجانب المشرف الذي أخذ يشرح لي طبيعة عملي، واندهش كثيرا من منظري العجيب وأنا أمشي! كنت أحاول أن أتحاشى وطأ كسرات الخبز؛ ولكن هيهات ، فقد كنت كمن يسبح في الماء ولا يريد أن تبتل ملابسه! صوت كل كسرة خبز كانت تتكسَّر تحت قدميَّ؛ كان يؤلم أذني؛ من الصعب جدا أن أدوس النعمة التي ظللت سنوات أنحني لألتقطها، وأقبلها، ثم أضعها بكل حِرص على جانب الطريق بعيدا عن الأقدام العابثة.

       لكن بعد دقائق من استلام العمل؛ أصبح المشي على الخبز نفسه شيئا عاديا! فكما قال المشرف، بعد أن لاحظ ارتباكي ، وأنا أمشي :

-         لسنا ملائكة! وليست لنا أجنحة لنطير، وكما ترى الدقيق في كل مكان؛ فكيف نتحرك ؟! أحيانا يكون علينا أن ندوس على الأشياء التي نحبها!

كان العمل شاقا جدا، لا سيما في اليوم الأول، كان علي َّ أن أرفع صفا من الطاولات الخشبية بعد أن يتم رص العجين فيها؛ وأقوم بحملها من أمام القطاعة؛ وأضعها أمام السير؛ حيث يقوم عاملان بعملية رص العجين على السير الآلي ليدخل النار؛ ثم يخرج من الناحية الأخرى أرغفة خبز ناضجة؛ فيقوم عاملان آخران بعملية رص هذه الأرغفة الساخنة فوق طاولات خفيفة مصنوعة من عسف وجريد النخل؛ ليأتي عامل آخر ويحملها إلى شباك البيع؛ ثم أقوم أنا بحمل الطاولات الفارغة؛ وأعود بها ؛ لأضعها أمام العامل الواقف أمام القطاعة حتى يرص عليها قطع العجين مرة أخرى، وهكذا دون توقّف؛ حتى كاد قلبي يتوقف من فرط التعب والإجهاد.

       كان عملي ضمن وردية الليل، وعرفت أن وردية النهار أكثر عمالها من الفتيات؛ حتى شباك البيع تعمل فيه فتاتان! ويوجد أربعة حمَّامات متجاورة، يدخلها العمال دون تمييز! فلا توجد حمامات حريمي وأخرى رجالي!

       اكتشفت أنني كنت انطوائيا أكثر مما كنت أظن، أو ربما لأن العمل كان شاقا جدا؛ لم أستطع أن أكوّن أي صداقات مع زملائي، ورغم ذلك عرفت قصصا عجيبة تدور داخل الفرن! والأعجب أنني عرفتها من خلال المكتوب على الجدران والحوائط ، ورغم أن المكتوب قد لا يتجاوز سطرا أو سطرين هنا أو هناك، إلا أنني كنت أقرأ بين هذه السطور تفاصيلا أكثر مما توضحه الكلمات! هذا غير القلوب الكثيرة التي كانت مرسومة؛ وكل قلب في منتصفه سهم نافذ! وعلى رأس كل سهم حرفان متعانقان! ولكن المثير بين كل هذه القلوب وهذه الكتابات والرسوم؛ رسمة تعبِّر عن فتاة منتفخة البطن بطريقة ملحوظة؛ وكأنها تشير إلى فتاة حامل! وتحت الرسم حرف ( س ) وحيدا؛ وليس بجانبه أي حروف أخرى!

       ذات ليلة سألني الأستاذ ( صلاح ) المشرف:

-         عندك استعداد تطبق؟

-         أطبّق ؟!

-         ها ها .. يعني بعد ما تخلص شغلك في وردية الليل، تكمِّل في وردية النهار؛ والأجر سيكون مضاعفا، أنت كما فهمت طالب في الكلية؛ ومحتاج فلوس تشتري كتب وغيره، إيه رأيك؟

-         موافق طبعا يا أستاذ

وافقت رغم التعب الذي كان ينهش أوصالي، فقد كنت كما قال محتاجا لكل جنيه، كما أننا كنا في الإجازة، وكنت أريد أن أدخر كل ما أستطيع؛ حتى أستطيع شراء الكتب عندما تبدأ الدراسة  وبالفعل تجاوزت الساعة السادسة صباحا؛ وانصرف غالبية عمال الليل؛ وبدأت وردية النهار التي كان أكثر عمالها من الفتيات، ورغم الإرهاق الشديد؛ وانهماكي في رص الطاولات؛ ونقلها، إلا أن الفضول جعلني أتابع الفتيات خِلسة، كنت أريد أن أتأكد من صحة تخميناتي ، ومن خلال ثرثرة البنات التي لا تنتهي ؛ عرفت اسم كل واحدة منهن؛ ومن خلال الحرف الأول لكل اسم؛ ربطت كل واحدة بشريكها، لكنني لم أستطع أن أحدد بالضبط من هي الفتاة ( س )!

       البنت التي تقف أما م العجانة لمحت جرذا يمشي على حافة العجانة؛ ويكاد يسقط في العجين، ورغم أن عدد الجرذان في الفرن أكثر من عدد العمال في الورديتين؛ ورؤية الجرذان شيء مألوف داخل الفرن، إلا أنني فوجئت بها ترتمي في أحضاني؛ وهي تصرخ بتدلل واضح! حتى أن الطاولات التي كنت أحملها كادت تقع ؛ ويقع كل العجين الذي فيها! وصك سمعي صوت ضحكات مكتومة ممن رأين هذا المشهد، ثم تراجعت الفتاة للخلف؛ وهي تتأسف على ما حدث!

       في وردية الليل كنت أذهب إلى الحمامات كلما اقتضى الأمر دون أي حرج، لكن في هذه الوردية حاولت أن أبتعد عن هذا المكان قدر الإمكان، حتى أن مثانتي كادت تنفجر؛ وأصبح لا مناص أمامي؛ فدخلت، وأغلقت الباب جيدا، وعندما هممت بالخروج وفتحت الباب فوجئت بها تنحشر داخل فتحة الباب؛ وتدفعني نحو الداخل؛ نفس الفتاة التي ارتمت في أحضاني، راودتني قشعريرة شديدة، وهي تغلق الباب خلفها! تسمَّرت في مكاني؛ وكأنني أصبت بشلل مفاجئ؛ لفحت وجهي بأنفاسها الساخنة؛ بينما كنت متجمدا كلوح الثلج لا أدري ماذا أفعل! فوجئت بها تقول لي:

-         اسمعني كويس! اهرب من الفرن بسرعة، ما تضيعش وقت!

كالطفل الذي سقط في بركة ماء؛ ولا يستطيع العوم؛ سألتها بكل سذاجة:

-         أهرب ليه! هو الفرن هيتحرق؟!

قرصتني في ذراعي، وهي تقول بعصبية أفزعتني:

-         يا عبيط! اخرج قبل ما العقربة ( سماهر ) ترمي بلاها عليك؛ وتشرب انت الفضيحة مكان المدعوق ( صلاح )!

-         سماهررررر! سين سسسسسسسسسس!!

اختفت فجأة من أمامي؛ خرجت وأغلقت الباب، وأنا في الداخل أضرب أخماسا في أسداسٍ؛ ثم سمعت صوتها، إنه نفس الصوت ولكن بنبرة أعلى:

-         ( سماهر) انتي داخلة الحمام يا ( سماهر )؟!

-         عندك مانع ولا إيه؟!

نافذة الحمام الخشبية كانت جديدة؛ ومتماسكة تماما؛ وكنت مرهقا جدا، ولكنني عندما ركلتها بساقي بكل ما تبقى لي من قوة انكسرت وتحطم الزجاج؛ وتناثر في كل مكان؛ واستطعت أن أقفز خارج الفرن!

       لم أتقاض أجرة وردية الليل؛ ولا وردية النهار، ومع ذلك ظللت أجري في الشوارع مبتعدا عن الفرن، فقد تذكرت حديثا سمعته منذ أيام يدور بين العمال، ولم أفهم معناه إلا الآن: الأستاذ ( صلاح ) المشرف لم يترك فتاة في الفرن إلا وحام حولها كالذئب؛ ويبدو أنه أخطأ مع ( سماهر ) وثمرة الخطيئة تكبر؛ وستنكشف الفضيحة في أي لحظة؛ ويريد كبش فداء؛ ويبدو أنه لم يجد كبش فداء غيري! أما هذه البنت التي أنقذتني فهي لم تنصحني لوجه الله؛ إنها إحدى ضحاياه؛ ولم تكن تحاول إنقاذي بقدر ما كانت تحاول إيقاع هذا الذئب في شر أعماله.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

من أجل كمامة

       لم يتخيل يوما انه سيتعرض لمثل هذه المشكلة الرهيبة ،  ليس في جيبه مليما واحدا ، والحارس أمام باب مكتب البريد يأمره ان يذهب ويشتري كمامة ليسمح له بالدخول وصرف معاشه . .

      في الصيدليه ترك بطاقته الشخصيه للشاب الصغير رهناً في سبيل الحصول على كمامة وقال له انه بمجرد صرف المعاش سيدفع له ثمنها ، ويسترد بطاقته !

إن الامر لن يستغرق سوى بضع دقائق فقط، لكن الشاب رفض بعنجهية

     أخذ يتلفت حوله كغريق يبحث عن قشة يتشبث بها ،  إنه لا يصدق كل هذا التبلد الذي يحيط به ،  أصبحت قلوب الناس كالحجاره او أشد قسوة !

      لمح مسنا مثله يخرج من مكتب البريد بمجرد خروجه ألقى بكمامته وانطلق كمن نال حريته بعد حبس طويل !  التقطها وبدون تردد وضعها على وجهه ودخل المكتب وصرف المعاش ! 

      بعد أسبوعين رأي نفس الرجل المسن لكن في مستشفى الحجر الصحي كان راقدا على السرير المجاور يعاني ويتلوى كسمكة تشوى في النار وهي حية !

دمياط    ٥/٦/ ٢٠٢٠

رسالة من العالم الآخر

       قررت عندما أموت -  وهذا ليس واردا الآن في مخيلتي – أن أضع قلما وبعض الأوراق في قبري! حتى أكتب كل ما يمر بي وما يحدث لي داخل القبر من خير أو شر . قدماء المصريين أنفسهم كانوا يحرصون على وضع ملابسهم وطعامهم معهم، بل وذهبهم وحليهم ، فقد كانوا يؤمنون بعودة الروح إلى الجسد بعد الموت ! صحيح أن أحدهم لم يقم من موته قط ؛ ولم ينفعه شيء مما وضع له في قبره؛ بل أصبح معظم هذه الأشياء نهبة للصوص المقابر! لكن ما المانع من وضع قلم ؛ أو حتى بضعة أقلام وأوراق ؛ وتسجيل كل ما يدور لحظة بلحظة، وما المانع من وضع كاميرا فيديو تصور وتسجل كل شيء ! فإن عادت الروح إلى جسدي ؛ كنت أول من يرتاد العالم الآخر؛ ويرسل رسائل حية إلى هؤلاء الأحياء الذين لا يعرفون ماذا ينتظرهم في هذا العالم المجهول.

       لم يكن الموت محببا إلى قلبي، بل كانت مجرد فكرة كتبتها في وصية؛ وذكرتها لزوجتي. فكرة تملكتني بسبب كثرة من يموتون حولي في زمن الوباء والبلاء! لكن يبدو أنها راقت لها؛ وبطريقة سحرية بدلت الوصية؛ فبدلا من ( قررت عندما أموت....) جعلتها ( قررت أن أموت .. .. ) وبالفعل وضعت لي السم في طاجن البامية الذي أحبه؛ ووضعت خبرة الطهي التي اكتسبتها طيلة السنوات الماضية في هذا الطاجن؛ حتى إنني كدت آكل أصابعي، وأنا ألتهم البامية المسمومة!

        الجميع يعتقدون الآن أنني انتحرت! يظنونني قتلت نفسي من أجل أن أقوم بهذه التجربة الرهيبة، والتي ذكرتها في وصيتي بالتفصيل! هذه الوصية التي تحولت إلى شاهد إثبات على انتحاري! أسمعهم الآن وهم يصفونني بالمجنون؛ ويتهمونني بأنني وصمت العائلة كلها بالعار، بسبب هذا الانتحار؛ ها هو ابن خالي الذي يكرهني بشدة؛ ودون سبب، يقول ( الكلب عاش ناكرا ؛ ومات كافرا !) أما ابن عمتي الطيب، فسأل من حوله ( ماذا سنفعل في وصيته؛ الوصية يجب أن تنفذ على حد علمي) ردت عليه أختي الكبرى قائلة بغضب واضح ( معقول هذا الكلام! كفاية فضائح، سيرتنا أصبحت على كل لسان؛ ادفنوه، واقفلوا عليه باب القبر بالضبة والمفتاح، الله يسامحه! جرسنا وفضحنا.)أما أخي الأصغر الذي نشبت بيني وبينه العداوة والبغضاء بسبب الميراث، فقال ( لا تجوز الصلاة على المنتحر؛ قاتل نفسه - يا جماعة - كافر؛ لا يغسل؛ ولا يصلى عليه.)

          لم يوافق أحد منهم على عودة جثماني من المستشفى إلى البيت! اتفقوا جميعاً على أن يذهبوا به مباشرة إلى القبر! وفي القبر لم أجد شيئاً مما أوصيت به! لم يحترموا وصيتي! ابني الأكبر أصر على أن يحمل الجثمان معهم وهم ينزلون به إلى اللحد؛ وغافل الجميع؛ ودس شيئاً في طيات الكفن، لم يلاحظه أحد؛ وخرجوا؛ وأغلقوا الباب بإحكام! وكأنهم يخشون خروجي!

          شيء عجيب جدا! فرغم رهبة المكان، كان طعم البامية لا يزال يدغدغ لساني؛ فقد كانت لذيذة جدا؛ لدرجة أنني نسيت أنني أصبحت مجرد جثة داخل كفن أبيض! أخرجت ما وضعه ابني، وأخفاه في الكفن؛ فإذا به عبارة عن دفتر صغير؛ وقلم؛!وهاتفي النقال! ابني حبيبي نفذ الوصية؛ بسعادة كبيرة ضغطت مفتاح التشغيل؛ فأضاءت شاشة الهاتف الفضية؛ فاستنار المكان حولي؛ نزعت قماش الكفن الملفوف حول جسدي؛ وتربعت في مكاني؛ فوجئت أن القبر ليس حفرة مخيفة كما كنت أتخيل! بل وجدته يشبه تماما حجرة مكتبي! والأعجب من ذلك أن التكييف كان موجودا؛ وكان يعمل لدرجة أنني شعرت بالبرد يتسلل إلى جسدي؛ مما جعلني أتساءل إذا كنت حقا ميتا أم أن كل هذا مجرد كابوس رهيب! طلبت زوجتي على الهاتف؛ فاجأني صوت ابنتي وهي تسألني بلهفة واضحة ونبرة صوت غاضبة:

-  بابا! أين أنت، لماذا لم تُحضر المبلغ الذي طلبته منك! لقد طردتني سكرتيرة المستر لأنني لم أدفع فلوس الدرس؛ الامتحان غدا؛ الله يسامحك يا بابا ضيَّعت مستقبلي!

ثم سمعت صوت زوجتي؛ وشعرت بأنفاسها الساخنة تلفح وجهي! وهي تقول باستفزاز كعادتها:

-         ثلاثة أيام بلياليها وحضرتك ناسينا! إذا كنت مرتاح عندك؛ وناوي تطوِّل؛ أرسل لنا مصروف البيت؛ الأكل خلص؛ والأولاد محتاجين مصروف؛ ومواصلات؛ ودروس!

أصابني الذهول، وتساءلت في حيرة:

- إذا كانت زوجتي تحدثني بهذه الطريقة، ولا تعلم وفاتي؛ فمن الذي وضع لي السم في البامية؟! مؤكد أنها أختي الكبرى؛ إنها تكرهني، ولم لا وقد طردتها مضطرا بعد المشاجرة التي وقعت بينها وبين زوجتي مؤخرا؛ طردتها حتى لا تتفاقم الأمور ويحل الخراب على بيتي! وربما يكون الفاعل هو أخي الأصغر فما دار بيني وبينه أثناء تقسيم الميراث أشعل نارا من الصعب جدا إطفاؤها!

            في خضم هذه الحيرة سمعت جلبة خلف باب القبر؛ وشعرت بأن الباب على وشك أن ينفتح! أطفأت الهاتف؛ وعدت إلى داخل الكفن بسرعة؛ وتمددت كما كنت، شعرت بدبيب أقدام كثيرة من حولي؛ وانحنى اثنان نحوي؛ أحدهما يقيس النبض؛ والآخر يضغط بقوة على صدري، و .. .. ؛ وسمعت صوتا - تشي نبرة صوته بأنه ضابط شرطة – يقول:

 - يبدو أنه على هذه الحالة منذ ثلاثة أيام! هل مات؟!

-  لا، لم يمت، لكن نبضه ضعيف جدا!

-  معقول! مرت عليه ثلاثة أيام؛ ولا يزال على قيد الحياة؟!

 - قلبه قوي؛ ولديه إصرار على أن يعيش! شخص آخر في نفس هذه الظروف مؤكد كان سيموت في أقل من هذه المدة!

-  لكن كيف عرفتم أنه هنا في المكتب ؟!

كان الضابط يوجه سؤاله لبعض الجيران الذين دخلوا مع أفراد الشرطة، ورجال الإسعاف؛ رد أحدهم قائلا:

- الأستاذ هشام المحامي اعتاد هو وأسرته كل خميس على أن تذهب زوجته وأولاده إلى شقتهم في رأس البر؛  و بعد أن ينهي عمله؛ يلحق بهم؛ ويخلو المكتب يومي الجمعة والسبت، لكن هذه المرة سمعنا أصواتا؛ وطرقات غريبة تأتي من داخل الشقة؛ فظننا أن لصوصا يحاولون سرقة ونهب شقة الأستاذ؛ واتصلنا فورا بالشرطة.

سأل الضابط هذه المرة الطبيب الذي كان يسعفني:

- هل هي غيبوبة سكر؟

- لا؛ سعادتك هو ليس مريض سكر، ولكن يبدو أنه فقد توازنه؛ وسقط على الأرض؛ فاصطدمت رأسه؛ وفقد الوعي! إنها إمور تحدث كثيرا لمن كان في مثل سنه !

       رغم أنني كنت في حالة يرثى لها؛ واضطر رجال الإسعاف إلى نقلي إلى المستشفى؛ إلا أنني كنت قد بدأت أشعر بما يدور حولي؛ كل الوجوه حولي غريبة؛ بحثت بينهم عن وجه ٍ واحد ٍ أعرفه فلم أجد! أين أولادي؛ وأين زوجتي؛ أين إخوتي؟!  لولا بلاغ الجيران ما أحس أحد بوجودي! ربما لو بقيت في هذا المكان شهورا ما أحس بي أحد منهم حتى تتعفن جثتي وتزكمهم الرائحة! بكيت كثيرا عندما سمعت ممرضة تسأل زميلاتها في دهشة:

-         أليس له أقارب؟!.

دمياط

15 / 7 / 2021 م

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

صديقي الكلب

        لن يغضب لو علم أنني ألقبه بالكلب ! والحقيقة أنني ظلمت الكلاب إذ نسبته إليهم ؛ فالكلاب تتصف بالوفاء وبالحب ؛ أما صديقي هذا فلا يعرف من الحب إلا اسمه ، ولا يدرك من الوفاء حتى رسمه!

كان يسير معي كظلي ؛ ولم يكن يفارقني لحظة، و كنت أعتبره أخي الذي لم تلده أمي!

       لكن اتضح لي اليوم أنه كان يخدعني ، كان يجهزني لأكون الجسر الذي سيعبر عليه لتحقيق حلم حياته ؛ صفقة العمر ؛ الصفقة الصينية .

       أصر َّ على أن يصحبني معه إلى الصين ! العالم كله يفر من مسقط رأس كورونا ، أما هو فيرى أن السفر إليها في هذا التوقيت فرصة ذهبية لن تتكرر !

       منذ شهور وهو يسعى خلف هذه الصفقة ؛ وأخيرا أصبح على بعد ساعات من إتمامها ؛ سيدفع عشرة ملايين في بضاعة سيبيعها - على أقل تقدير – بخمسمائة مليون ! فقرار منع الاستيراد من الصين بسبب كورونا سيوفر له فرصة احتكار السوق ؛ و هو يعرف جيدا كيف يدخل هذه البضاعة ويعبر بها من الميناء ؛ لن يكلفه الأمر سوى مليونين يوزعهما على الكبار ؛ و ستدخل البضاعة وكأنها ترتدى طاقية الإخفاء ؛ ثم يصبح من السهل أن يغرق بها البلد كله !

       في غرفة الفندق كان كريما معي أكثر من ذي قبل ؛ اهتمام كبير لدرجة أنني بدأت أتوجس منه شرا ؛ إنني الوحيد الذي يعرف كل أسراره ؛ وأعرف جيدا أنه أناني و عدواني وليس له أمان ! ربما سيتخلص مني كما فعل مع زوجته المسكينة !

       عندما استحكم الخلاف بينهما ، وقرر تطليقها دون أن يخسر جنيها واحدا ؛ لفق لها واقعة ارتكاب الزنا ! وجند لهذا الأمر الفظيع شهود زور ؛ ثم طلقها ! ولم يشغل باله بالفضيحة التي ستلتصق بطفلته الرضيعة طول حياتها ، إنه شيطان بكل معنى الكلمة !

كنت أعرف أن زوجته بريئة ، وأنه هو المجرم ، ولكن أحدا لم يطلب شهادتي ، وحتى لو حدث هذا ما كنت لأشهد ضد صديقي ؟! فلا أستطيع أن أخسره .

       بدأت أنياب الخوف تنهش في قلبي ، أخشى أن يغدر بي كما غدر بزوجته أم طفلته الرضيعة ! يا لي من مغفل ! ليتني لم أرافقه في سفره هذا ؛ فشركاؤه الصينيون يعضونني بأبصارهم ! إنهم لا يرفعون أنظارهم عني ؛ لدرجة أن قلبي امتلأ رعبا عندما اقتربوا مني ، وقيدوني بحبال ٍ بلاستيكية متينة ، ووضعوا كمامة كبيرة على فمي وأنفي ! كل هذا أمام عينيه ، والعجيب أنه كان يساعدهم ، ويربت على ظهري حتى أهدأ و أستسلم لهم !

       شعرت بسن حقنة يخترق عنقي ، وبالخدر يسري في عروقي ، وقبل أن أغيب عن الوعي ، سمعت المترجم يقول لصديقي الملعون :

  -  السيد " لي " رئيس مجلس إدارة الشركة لن ينسى لك هذا المعروف أبدا ؛ فكبد هذا العربي الأصيل هو الذي سينقذ حياته كما قال الأطباء .

ابتسم الملعون ، وسأله بينما كانت يده تمسح على رأسي الذي كان كصندوق أسراره الذي يوشك على التخلص منه :

-  هل صحيح أنكم تسلقونها حية ؟!

دمياط

30 / 7 / 2020 م

 

 

 

 

لم يكن صديقي

       لم يكن صديقا لي، ولكن شاءت الأقدار أن يجمعنا عمل واحد في أحد المطاعم الشهيرة في رأس البر؛ هو في صالة المطعم يُقدم الطلبات للزبائن؛ وأنا في المطبخ أقوم بتقشير، وتقطيع الخضار.

       ولأنني جديد في هذا العمل؛ ظننته سهلا؛ لكنني فوجئت بأنني لم أبك ِ في حياتي كما بكيت أثناء عملي هذا، لا سيما عندما كنت أقوم بتقطيع البصل!

       لا أدري كيف عرف أنني أهوى كتابة الشعر، ربما قرأ شيئا مما كنت أكتبه بقلمي الرصاص على المنضدة الخشبية التي في المطبخ، فقد كنت كلما جاد الإلهام ببيت من الشعر؛ أكتبه على هذه المنضدة ؛ حتى لا أنساه، وقبل انصرافي أمحو كل ما كتبته، بعد أن أنقله في ورقة؛ وبمجرد أن عرف حبي للشعر؛ بدأ يأخذ رأيِّ في أبيات شعر يقول أنها من تأليفه، والحقيقة أنني انبهرت بما سمعته منه، وبطريقته في الإلقاء، فلم يكن ما يقوله شعرا بل كان سحرا !.

       كان عملي ينتهي في الثانية بعد منتصف الليل؛ وكنت حريصا جدا على ألا أضيِّع لحظة من الوقت؛ فكنت أذهب إلى موقف الميكروباص، وأعود إلى دمياط؛ لأنال ما يكفيني من النوم؛ حتى أستطيع أن أواصل العمل في اليوم التالي .

       لكن بعد أن تعرَّفت على هذا الشاعر العبقري؛ ذهب حرصي هذا أدراج الرياح؛ وبدأت أتجول معه في الشوارع بعد انتهاء وقت العمل، وأجلس معه أمام البحر، وأنا أستمع بإعجاب لأشعاره التي لا يمكن أن تصدر إلا من شاعر كبير. كنت مستمعا جيدا، وكان هو في غاية السعادة، لأنه وجد له جمهورا، حتى لو كان هذا الجمهور شخصا واحدا يتمثل في شخصي المتواضع !

      وذات مساء، وأنا منهمك في تقشير، وتقطيع كمية كبيرة من الثوم؛ سمعت أغنية كلماتها كلمات قصيدة سمعتها بالأمس منه ، و قال لي إنها وأحدث إبداعاته! وعندما سألت زميلا لي عن هذه الأغنية؛ فوجئت به يقول إنها قديمة، واندهش كثيرا من أنني لم أسمعها من قبل!

       عندما واجهت صديقي الذي تبين لي غشه وخداعه؛ ضحك ضحكة صفراء، وقال لي:

-         كلنا لصوص يا عزيزي!

ضحكت بدوري، وأنا في غاية الذهول، فحتى رده مأخوذ بحذافيره من أحد الأفلام، وحمدت الله أنني كنت قد شاهدت هذا الفيلم، وإلا لظننت كالمعتاد أن هذه المقولة الشهيرة من إبداعه، قلت له معاتبا:

-         لكن الشعر الذي كنت أقرأه لك كان من تأليفي، لم أسرق بيتا أو قصيدة من شاعر آخر !

-         يا صديقي أنا لم أسرق، ولو عرفت الحكاية ستعذرني!

-         حكاية .. أي حكاية؟

-         أعرف أنك إنسان شهم، وكتوم، ولن تفشي سري لأحد.

ولأنني في الفترة الأخيرة تعودت أن أنصت له، وتعود هو أن يتكلم! لذلك أصغيت إليه رغم بركان الغضب الثائربداخلي، فأكمل قائلا:

-         أعترف بأنني لست شاعرا, فلم أكتب بيت شعر واحد في حياتي، والأعجب من ذلك أنني لم أكمل تعليمي، حتى شهادة الابتدائية للأسف لم أستطع أن أحصل عليها، أستطيع أن أقرأ وأكتب، لكن ليست معي أي شهادة !

أخذتني نوبة من الذهول، وظننته يكذب كعادته؛ فلم يخطر على بالي قط أن يكون راسب ابتدائية، لكنني لم أقاطعه، تركته يُكمل كلامه العجيب، فقال:

-         باختصار.. أحببت؛ والفتاة التي أحببتها ـ لسوء حظي ـ مجنونة ! أقصد مهووسة بالشعر، لدرجة أنها انتسبت لأحد أندية الأدب، وعلمت أن هذا النادي يجتمع أعضاؤه كل أسبوع؛ ليعرض كل واحد منهم قصيدته أو قصته؛ وكان هذا اللقاء الأسبوعي فرصتي لكي أراها؛ فتقدمت للحصول على العضوية، وبالفعل أصبحت عضوا عاملا فيه، وبدأت أجهز لكل لقاء قصيدةً؛ حتى ألفت انتباهها؛ وأنال إعجابها!

-         لكن هذا النادي أكيد فيه شعراء كبار؛ وسهل عليهم أن يكتشفوا أن القصائد ليست من تأليفك خصوصا القصائد التي تحولت إلى أغاني مشهورة !

-         يا صاحبي لست ساذجا إلى هذه الدرجة، القصائد التي كنت أقرأها لك لشعراء كبار، لأنني كنت واثقا أنك لن تكتشف ذلك؛ لأنك طول الوقت كنت مطحونا في الشغل، وليس لديك أي وقت للقراءة، أو حتى لسماع الأغاني .

اكتشفت وأنا أسمع هذا الكلام مدى سذاجتي، وقلة خبرتي، لقد استطاع أن يخدعني ـ وقتا طويلا ـ لدرجة أنني ـ في وقت من الأوقات ـ صدَّقت أن الشعر شعره، وأنه نابغة عصره، وأمير شعراء هذا الزمان!  لكن أنَّى له أن يخدع شعراءً كباراً مثل شعراء نادي الأدب! فسألته متعجبا:

-         والشعر الذي كنت تعرضه على نادي الأدب ، من أين كنت تأتي به؟

-         من ديوان قديم لشاعر مغمور، لم يسمع به أحد، ولم يقرأ له أحد!

-         وأين وجدت هذا الديوان؟

-         لن تصدِّق!  في كومة من القمامة!

-         معقول؟!

-         يا صديقي! لا تتخيل مدى إعجاب النقاد والشعراء في النادي بالشعر الذي ألقيه عليهم، ولو أن هذا الشاعر المجهول كان حياً؛ لشكرني على ما فعلته، فقد بعثت الروح في أشعاره، وأعدتها للحياة من جديد! 

-         أنت تتوهم ذلك، والشيطان يزين لك الأمر؛ لتجد مبررا للسرقة التي تقوم بها !

-         قلت لك أنا لا أسرق، أنا أقتبس، أجدد، أعيد الحياة للقصائد التي ماتت.

-         صدقني! توقف قبل أن يكتشفوا سرقتك، ويفضحونك، تخيَّل صورتك أمام حبيبتك، عندما يتم اكتشاف أن أشعارك كلها مسروقة!

-         هاها! أنت طيب جدا يا صديقي، الناس في طاحونة، مربوطين في ساقية، من الذي سيشغل نفسه ووقته في البحث عن مصدر الشعر الذي أقوله لهم؟!

حاولت أن أثنيه، وأبعده عن هذا الطريق المشبوه، لكن بلا جدوى! ولما تبيَّن لي أن هذا الطريق يسير في اتجاه واحد، ولا يمكن الرجوع منه؛ ابتعدت عنه. خصوصا أن الأجازة انتهت؛ فتركت العمل؛ لأتفرغ للدراسة، فالمناهج كثيرة ومتفرعة، وتحتاج إلى كل الوقت للمذاكرة، والقراءة، والاطلاع.

      مرت شهور خصصت فيها كل وقتي لدراستي الجامعية، وفي أجازة نصف العام، قررت أن أخطو خطوة جريئة في مسيرتي الأدبية، من مجرد هاوٍ للشعر إلى شاعر معتمد بصفة رسمية، وذلك بانتسابي إلى نادي الأدب؛ فتقدمت بطلب مشفوع بعدة قصائد من أشعاري، وبالفعل تم قبول عضويتي، وأصبحت عضوا منتسبا .

       كانت سعادتي كبيرة، ولا سيما وأنا أستعد لحضور أول ندوة لي في اللقاء الأسبوعي للنادي، وجهزت أفضل قصيدة عندي لهذا اللقاء! وارتديت قميصا وبنطلونا اشتريتهما خصيصا لهذه الندوة، وكدت أطير من الفرح، وأنا أصافح الشعراء الكبار الذين كنت أقرأ لهم، وأسمع عنهم من قبل أن أراهم! وبدات الندوة بكلمة رئيس النادي الذي كان مما قاله :

-         .. .. ونحن كمجلس قديم نبارك للمجلس الجديد الذي تم انتخابه، ونبارك لرئيس مجلس الإدارة الجديد، ولكل أعضاء الإدارة، ونتمنى لهم جميعا التوفيق والسداد.

ثم قام الرجل، وترك مكانه للرئيس الجديد؛ الذي قام بدوره ليصافحه؛ ثم جلس مكانه، كان وجه الرئيس الجديد مألوفا لي، رغم البدلة والكرافتة، وتسريحة الشعر المثبتة بالجل والبخار الساخن، لقد عرفته من أول نظرة؛ إنه هو نفسه الشاعر المزيف؛ المحتال الذي يسرق أشعار غيره! دون أن أدري مزقت الورقة التي كنت قد كتبت فيها قصيدتي! وأنا أستمع لكلمته، وفوجئت بالجميع يصفقون له بحرارة، ويقومون من أماكانهم لمصافحته، وتهنئته! كنت على وشك أن أتسلل من القاعة، وأخرج بلا رجعة، لكنني فوجئت به يبتسم لي ابتسامة عريضة، وهو يقول :

-         صديقي العزيز !

ويأخذني بالأحضان! ثم أعطاني ظهره، ليتلقى تهنئة باقي الشعراء ، وتركني أترنح كالسكران.

دمياط

28  /  7  / 2021 م

      

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حلم العذراء

       لديها قدرة عجيبة على تذكر كل ما تراه في المنام ، حتى التفاصيل الدقيقة ، تعوّدت أن تستيقظ لتحكي حلمها، ثم تستمع لتفسيره من إحدى شقيقاتها أو صديقاتها !

        إيمانها بالأحلام يفوق كل الحدود ، لدرجة أنها رفضت أحد الخطّاب لمجرد أنها رأت في المنام مسمارا ً يدخل في حِذائها ! ورفضت آخر لأنها رأت السقف يسقط عليها !

       لم تتعوّد أبدا أن تُخفي حلما، لكنها هذه المرّة لم تبح بما رأت في هذه الليلة ! كان أبشع من أن يكون كابوسًا، وكانت تعرف تفسيره من كثرة ما قرأت في هذا الموضوع .

       حبست نفسها في غرفتها، وظلت تبكي ، وقد قررت ألا تخبر أحدا و بخاصة أمها ، فهي مريضة وحالتها تسوء يوما بعد يوم، و لن تحتمل الصدمة ، بل قد تموت إذا أخبرتها !

       سمعت بخبر ٍ لم تُصدقه، لكنه بدأ ينتشر، ربما كان إشاعة سوداء، لكنها كانت كفيلة بقتل أمها المسكينة ، ولم تكد تنتهي أيام العزاء حتى فوجئت هي وأخواتها بالإشاعة تدخل عليهم متأبطة ً ذراع َ الأب؛ وقد باتت من لحم ٍ ودم ٍ!

       صرخت بأعلى صوتها، حاولت أن تُمزق بأسنانها الأمر َالواقع الذي يريد أبوها أن يفرضه ، أسكتها بياض أسنانه الشديد ! كانت تلمع كلما فتح فمه ليتكلم و يبرر ما فعله ، إنها تبدو جديدة ، رغم أنها رأتها كلها تسقط من فمه في المنام !

دمياط

23 / 6 / 2019 م

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فرصة عمل ضائعة

       بحث في كل مكان , حتى تمزّق حذاؤه , و تقرّحت أصابع ُ قدميه , و مع ذلك لم يجد عملا !

      انتصف الليل ُ لكنه لا يستطيع أن يعود إلى البيت , ماذا سيقول لزوجته وأطفاله الصغار الذين أضناهم الجوع ؟! إنه على استعداد لأن يعمل في أي شيء .. أي شيء ! و لا يراهم على هذه الحالة .

وجد نفسه أمام باب ملهى ليلي ! تساءل هل يقبلونه عاملا عندهم , أمام عامل البار , وجد نفسه يكرر نفس السؤال الذي كرره دخل؛ و مرّاتا عديدة:

! - هل أجد عندكم أي عمل ؟

 - لا  .. لدينا عمالة زائدة هذه الأيام .. شكرا

 - إنني على استعداد لأن أعمل... جرسون... عامل نظافة... بواب.. أي شيء !

 آسف , لا يوجد لدينا عمل لك  -

يمكنني أن أنظف لكم المراحيض .. أمسح الحمّامات -

- عندنا من يقوم بذلك .. شكرا .. ابحث في مكان آخر

      على منضدة قريبة رآه أحد ُ السكارى , و سمع الحوار الذي دار  فدعاه إلى الجلوس , لكنه تجاهله , ومشى وهو مطأطئ الرأس , سمع السكران يناديه , ويقول له

 - تبحث عن عمل ؟ .. تعالى , عندي لك عمل !

عاد إليه بعد أن كان قد جاوزه , وسأله بلهفة

-  هل قلت أن عندك عمل لي ؟ !

أشار إليه بالجلوس فجلس , و طلب منه أن يشاركه الطعام فتمنّع شاكرا رغم أنه لم يذق طوال يومه غير طعم الماء ! ثم فوجئ به يقدم له كأسا, فرفض قائلا :

-  شكرا  .. فأنا لا أشرب الخمر

أشاح السكران بوجهه عنه , وهو يقول :

 - أول القصيدة كفر ! كنت أحسبك تصلح للوظيفة .. لكن ..

أمسك الرجل الكأس بكلتا يديه , وأفرغ ما بها في جوفه جرعة واحدة , و هو مغمض العينين و قال :

-  لكن ماذا .. يا سيدي أنا على استعداد أن أشرب النار , وآكل الجمر .. لكن أخبرني ما هي هذه الوظيفة !!

ضحك السكران حتى كاد يسقط أرضا , وبعد أن انتهت نوبة الضحك , قام وهو يقول :

 - انتظرني .. سأذهب إلى الحمّام , و أعود إليك , لا تذهب إلى أي مكان !

قام السكران , وترك الرجل وحده حيرانا , كقشة في بحر متلاطم الأمواج !

       مر ّ وقت ٌ طويل و لم يعد السكران , وجاء النادل يطالبه بالحِساب ,في هذه اللحظة أحس ّ بالورطة التي وقع فيها وهو لا يشعر , كان على استعداد للقيام بأي عمل مهما بلغت مشقته لكنه لم يكن يتوقع أن ينال كل هذا الضرب المبرح , كاد قلبه يتوقف من عنف وشدة اللكمات التي تلقاها حتى سالت الدماء ُ من وجهه , ولطخت ثيابه !

       عندما أفاق وجد نفسه مكوّما ً على الرصيف المواجه للملهى الليلي , وسط أكياس القمامة , وقطة صغيرة تلعق دماءه , كانت جائعة مثل صغاره !

 

 

 

الحياة الأخرى

  -     إلى متى أحتمل كل هذه الآلام؛ وكل هذا العذاب، إلى متى أظل غارقا في بحار هذه الحياة الظالمة المظلمة المليئة بالكراهية ؟! ليتني أستطيع الخلاص من كل هذا! ليتني أستطيع .. حتى ولو كان الثمن حياتي نفسها !

هكذا كان محسن يحدث نفسه، وهو يتطلع إلى النيل من فوق الكوبري؛ ودموع عينيه تنساب ساخنة على خديه؛ فتبعث إحساسا بالخدر؛ ثم تسقط في المياه منتحرة؛ وتذهب بلا رجعة، أحس أن دموعه تسبقه إلى مصيره المحتوم فقال لنفسه، وقد قرر أمرا :

-         الحياة أصبحت جحيما لا يطاق؛ الموت أفضل من هذه الحياة!

كان ينظرإلى النيل بشوق ولهفة وكأنه ينظر إلى أمه وقد فتحت ذراعيها لاستقباله؛ وهمت بأن تضمه، وتأخذه في أحضانها، فلم ينتبه إلى تلك الأسرة الصغيرة التي كانت تسير نحوه، الأب والأم منشغلان بالحديث؛ وابنتهما الصغيرة ذات الضفيرة لا تكف عن الحركة، والدوران حولهما، وهي تتقافز في شقاوة واضحة! ورغم تذمر الأم وخوفها على ابنتها الشقية؛ إلا أن الأب ـ الذي كان يسير مستندا على عكاز، حيث كان مصابا بشلل أطفال في إحدى ساقيه ـ كان يبدو سعيدا كل السعادة بشقاوة ابنته وفرط حركتها، وبينما محسن يستعد للقفز في الماء؛ حتى يتخلص من حياته، ومشاكله! تذكر أنه يجيد السباحة؛ حتى إنه لو ألقى نفسه في الماء فلن يغرق، ولو ظل في المياه طول النهار! تذكر هذا فتبسم ساخرا من نفسه على الرغم من دموعه التي لا تتوقف عن الجريان؛ فمن يرى وجهه وهو على هذا الحال؛ يظن أن به مس من الجنون، لكنه قال لنفسه :

-         الكوبري مرتفع، والسقوط من هذا الارتفاع الكبير أكيد سيصيبني بالإغماء؛ فأفقد الوعي؛ وأغرق في دقائق معدودة دون أن أشعر بأي ألم، تكفيني آلام حياتي وعذاباتي.

كاد أن يرمي نفسه من فوق الكوبري، لولا أن صك أذنيه صوت ارتطام شئ بالماء؛ أعقبه صراخ مفزع؛ فتجمد في مكانه في آخر لحظة؛ ثم تلفَّت حوله؛ ليستطلع الأمر؛ فرأى الإبوين يطلان بفزع على حافة الكوبري، وهما يصرخان، ويستغيثان، ويكاد الأب يقذف نفسه خلف ابنته حتى ينقذها من الغرق! وكانت على صفحة المياه دوامة كبيرة وفقاقيع هواء كثيرة مكان سقوط الصغيرة؛ فألقى محسن نفسه في الماءدون تفكير أو تدبير؛ وقد تبخر من عقله في تلك اللحظة كل ما كان يعشش فيه؛ وأصبح هدفه الوحيد إنقاذ هذه البنت الصغيرة؛ وإعادتها إلى أبويها وهي على قيد الحياة.

       بعد وقت قصير مر كأنه دهر، كان محسن على الضفة والبنت الصغيرة راقدة في أحضان أبويها، وقد أحاط بهم جمع غفير من الناس، جمعهم صراخ الأبوين واستغاثاتهما، ولما أفاقت البنت، واطمأنوا على سلامتها ونجاتها، توجه الجميع نحو محسن يشكرونه على شهامته، ويحمدون له إسراعه إلى نجدة الصغيرة، وإنقاذها، وقبل أن ينصرفوا سمع أحدَ الواقفين يقول للأب الذي كان لا يزال يعاني من سكرات الصدمة، ويحتضن ابنته وعينيه لم تجف دموعهما بعد :

-         احمد ربنا إنه أرسل هذا الشاب الشهم في الوقت المناسب لإنقاذ ابنتك ، والله العظيم ثلاثة شبان غرقوا في هذا المكان الأسبوع الماضي، أصل النيل في هذه المنطقة عميق جدا، وفيه دوامات كثيرة، وأحسن عوّاَم ممكن يغرق فيها!

وبعد أن غادر الجميع، عاد محسن، ووقف في نفس المكان السابق الذي كان يقف فيه فوق الكوبري ، والمياه تتساقط من ملابسه وشعره؛ وتتناثر فوق صفحة المياه فتصنع دوائرا صغيرة؛ لا تلبث أن تكبر وتكبر، وتتسع شيئا فشيئا؛ ثم تتلاشى. وهنا ابتسم ابتسامة عريضة، وكأنه رأى الجنة بعينيه؛ ابتسم لأنه أدرك حقيقة كانت غائبة عنه، أدرك أن الحياة بضخامتها واتساعها تكون أضيق ما تكون عندما يعيشها الإنسان وهو مشغول بنفسه فقط، وأنها تكون أجمل وأغلى قيمة عندما يعيشها الإنسان من أجل الآخرين؛ هنا يجد أشياء كثيرة تستحق أن يعيش من أجلها؛ لذلك قرر أن يعيش، وأن يجرب لونا جديدا من الحياة لم يجربه من قبل حياة أخرى غير حياته السابقة.

دمياط

 


 

المؤلف:

·       متولي محمد متولي بصل مواليد 1971 م محافظة دمياط  -  جمهورية مصر العربية .

·       صدر له :

روايات :

·       شعبان في خبر كان  عن دار أمارجي العراقية

·       العجوز               عن دار أمارجي العراقية   

مجموعات قصصية:

·       الديك ذو العرف الأبيض   عن دار الوهيبي للطبع والنشر والتوزيع عام 2021 م

·        الحب في الوقت الضائع عن دار مؤسسة النيل والفرات للطبع والنشر والتوزيع، عام 2021 م

ديوان شعر فصحى:

·         بحار بلا مرسى ، عن دار الوهيبي للطبع والنشر والتوزيع، عام 2021 م

·       قبل أن تُرفع الجلسة ، عن دار الوهيبي للطبع والنشر والتوزيع، عام 2022 م

·       من يهتف في الميدان      عن دار أمارجي العراقية   

ديوان شعر عامية:

·       نفسي اشوف النيل بيضحك     عن دار نشر ميتابوك للطباعة والنشر والتوزيع ، عام 2021 م

·       أغاني مصرية     عن دار أمارجي العراقية   

·       له تحت الطبع

روايات:

·       الربيع الذي لا يأتي        

·       مكالمة بعد منتصف الليل

·       الممسوس

مجموعات قصصية:

·       مأساة حصان.

·        زلزال يوم القيامة

·       الرجل الذي سرق دبا    ( مجموعة قصص قصيرة جدا )

ديوان شعر فصحى:

·       غياب مؤقت

·       موعد مع الأمل

ديوان شعر عامية:

·       ليه يا بلد

·       العمر لحظة حب.

·       يوميات صايم

نشرت له  العديد من القصائد والقصص في مجلات وجرائد ورقية وإليكترونية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات مميزة

قدْرَ العربْ للشاعر : متولي بصل - مصر

  قدْرَ العربْ متولي بصل مصر *** غدا يعرفُ الناسُ قدْرَ العربْ وأنَّ العروبةَ   مثل الذهبْ وأنَّ البلاءَ على قدْرِها عظيمٌ و...

المشاركات الأكثر مشاهدة