أغمضت عينيها ببطء، وكأنها تغلق بوابةً على عالمٍ فوضوي من الأفكار والهموم. وجهها، المغمور في سكون الليل، استلقت على الوسادة، لتغرق في بحرٍ من الهدوء، بينما كان جسدها يذوب تحت وطأة الإرهاق، كما يذوب الثلج تحت أول خيوط الفجر. يداها كانت تشبكان الساعة، كما لو أنها تمسك بحياةٍ كاملة، تعرف جيدًا أن الوقت يسحبها بأهدابٍ رقيقة، فكأنها لا تملك من اللحظة سوى بصمة يدها على عقارب الزمن.
لكن لم يكن النوم قد أتاها بعد. كانت لحظاتٌ بين اليقظة والنعاس، كالطائر الذي يقف على حافة السماء ولا يعرف إن كان سيطير أم يظل واقفًا. بحذرٍ شديد، نهضت من سريرها، كما يفعل العصفور عند أول خيط من الضوء يتسلل عبر نافذته، تبحث عن شيءٍ لا يعرفه عقلها، ولكنه يسكن في قلبها. تحسست الأرض بقدميها العاريتين، كل خطوة كانت على الأرض كأنها تتنفس بتأنٍ، كأنها تخشى أن تستيقظ الأرض كلها معها.
اقتربت من النافذة، وفتحتها برفق، لتطل برأسها نحو الفضاء المظلم الذي يلف المدينة في قبضة من العتمة. كانت السماء كما لو أنها رسمت بفرشاةٍ من ظلال رمادية، مليئة بالانتظار، وكأن الليل لا يريد أن ينتهي. الرياح العابقة بالرطوبة كانت تعصف بها من بعيد، لكنها لم تفزع، بل سكنت روحها مع نسيمها البارد، وكأنها تأخذ نفسًا عميقًا، تشد به عزيمتها في هذا الصمت.
لكن العودة كانت حتمية، كعودة الغيم بعد لحظة انقشاع السماء. أغلقت النافذة بهدوءٍ، وعادت إلى سريرها، وكان السرير هو المرفأ الذي يقبلها مرة أخرى بعد رحلةٍ قصيرةٍ في العالم الخارجي. لفَّت نفسها في ملاءتها، وكأنها تغلف نفسها بأحلامٍ قد تكون عابرة، وقد تكون طويلة. الشراشف كانت تحتضنها بقوة، كما يحتضن البحر الزورق في عواصفه. كانت تلك اللحظات الأخيرة التي تسبق النوم، حيث يصير كل شيء ساكنًا، وكأن الزمن نفسه قد توقف ليمنحها قليلًا من السكينة.
ومع حركة تنفسٍ بطيئة، استسلمت لسلطان النوم. كانت عيناها مغلقتين الآن بشكلٍ تام، لكن قلبها مازال ينبض في التوقيت الخاص به، وكأن الليل كله أصبح يشهد على لحظات صمتها. لم يكن هناك حديث، فقط الهدوء الذي يحيط بها، والصمت الذي يملأ الفضاء حولها، حتى أن أنفاسها أصبحت جزءًا من تلك الظلال التي تحيط بكل شيء.
ومن بين تلك السكونات العميقة، غفت، لكن كان في غفوتها شيئًا غير عادي، شيئًا يسكن بين اليقظة والنوم، بين الفكرة والراحة.
وفي الصباح ...
دخلت نوارة إلى الغرفة الثانية التي يجلس فيها زوجها بخطواتٍ خفيفة، كما لو أنها تخشى أن تزعج فجرًا لم يكتمل بعد. كان الضوء الخارجي قد بدأ ينساب بخجلٍ من بين الستائر الثقيلة، محاولًا أن يقتحم العتمة التي ما زالت تغلف الغرفة، ولكنها بقيت صامتة، تنتظر.
الجو في الداخل كان مثقلًا، زجاجات الكحول المبعثرة على طاولة الطعام كانت تلمع بكسلٍ تحت ضوء الصباح، وكأنها تشهد على ليالٍ مضت في غفوةٍ مشوشة. كانت علبة السجائر مفتوحة، والولاعة ملقاة بجانبها كما لو كانت تخلت عن وظيفتها في إشعال اللحظات المظلمة. الهواء في الغرفة كان مثقلًا بدخانٍ شبه قديم، يتخلل النفس قبل أن يُفرج عنه في زفيرٍ حزين. وكل شيء في الغرفة كان يحمل آثار سهرٍ متواصل، وتراكم ساعاتٍ مفقودة.
على السرير، كان مازن، شاب في الثلاثين من عمره، غارقًا في نومه العميق. كان جسده منبسطًا على الوسادة، شعره المبعثر وكأنما فقد معركته ضد الفوضى. كان وجهه شاحبًا، وعيناه مغلقتان بإحكام، كما لو كان يحاول الهروب من ضوء الصباح، مُتسللًا إلى عوالمه الخاصة بعيدًا عن الواقع. كان هناك شيءٌ في ملامحه يوحي بأنه تَعبَ من معركةٍ دائمة، كأنه يعيش في حالة من الفراغ التي لا تنتهي.
وكان من العجيب أن مازن، ذلك الشاب الذي طالما عُرف بطاقةٍ لا تُقهر وحيويةٍ تجذب الأنظار، كان في تلك اللحظة، غارقًا في سكونٍ شبه دائم. يبدو أنه قد فقد توازنه في الليلة الماضية، كما لو أنه هو نفسه كان في صراعٍ داخلي لا يهدأ. كان يظهر عليه أثر تلك الليالي الطويلة التي كان ينسجها، تلك الليالي التي يراهن فيها على الوقت، ويتحدى فيها النعاس، ولكنه اليوم خسر هذا الرهان.
نوارة، وهي تنظر إلى زوجها وهو غارق في سباته، شعرت بقلبها يضيق. هي تعلم جيدًا ما مرَّ به خلال الأسابيع الماضية، تلك الأسابيع التي كانت الحروب فيها تدور داخل عقله، بينما كان يحاول الهروب من شيء ما، شيء عميق في داخله، كان يبدو وكأنه يهرب من نفسه. شعرت بشيء من الندم، وكأنها هي الأخرى، جزءٌ من هذا المأزق الذي وقعا فيه معًا.
اقتربت منه بخفة، وحركت الستائر برفق، ليغزو الضوء المكان، وكان ذلك الضوء وكأنما يصرخ في صمت الغرفة، مُحاولًا أن يكسر قيود العتمة. ترددت لحظة، ولكنها مدت يدها إلى الزجاجات التي كانت ملقاة بالقرب منه، وحركتها ببطء لتقف على قدميها، متأملة هذا الوضع الذي تكرر كل صباح، وفي كل مرة كان يثقل قلبها أكثر.
همست لنفسها:
-ألم تمل بعد؟ ألم تجد في نفسك ما يدفعك للانطلاق مجددًا؟
كانت الكلمات تتردد في ذهنها، لكن أفكارها كانت تتشابك كما يتشابك ضباب الصباح مع الرياح الباردة.
ثم، وهي تتنهد، قالت بهدوءٍ، محاولةً أن توقظه دون أن تُفاجئه أكثر:
- مازن، حان وقت الاستيقاظ.
كانت تلك الكلمات كنبضةٍ بسيطة في صمت المكان، لكنها حملت في طياتها الكثير من المعاني. كلماتٌ مليئة بالحيرة، بالقلق، والانتظار. ولكن مازن لم يثر، وظل مغمض العينين، كما لو كان يهرب من رنين الحياة خارج الحواف المغلقة.
مدت يدها مرة ثانية ولامست كتفه لتحركه لكن لا حراك.
مالت برأسها ولمست أذنها صدره ولم تسمع ضربات قلبه
صرخت ....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق